ما إن بدأت أعمال المرحلة الأولى من مشروع الإرث الثقافي والتنمية المدينية في مدينة بعلبك، حتى استبشر الأهالي خيراً بالمشروع الذي يمثّل خطوة رائدة على طريق صناعة التنمية السياحية المحلية. هو بمثابة حلم لطالما انتظره أبناء مدينة الشمس، بعد مرحلة «الحجر» الذي فرضته مديرية الآثار على عدد من المواقع الأثرية والتاريخية منذ ثلاثينيات القرن الماضي. فلا هي تركت أصحاب المواقع يؤهلونها، ولا أقدمت على ترميمها.
لكن حلم أمس بدّدته الأيام ومشاكل التنفيذ التي اعترضت المرحلة الأولى منه، ليتحوّل من «نعمة إلى نقمة»، بحسب أبناء المدينة. فالمشروع الذي كان من المفترض أن تنتهي مراحله كاملة في أيلول من العام 2010، لم ينفّذ منه حتى اليوم سوى جزء من مرحلته الأولى. وحتى هذا الجزء لم ينل تنفيذه الرضى، سواء لجهة خطة السير التي اعتمدت في المدينة وطريقة رصف الشوارع، أو لجهة ترميم الأبنية الأثرية والتاريخية، وخصوصاً في حي القلعة.
فالحيّ المجاور لمعبد البربارة، والمطلّ على آثار بعلبك، ولا سيما معبد جوبيتر وأعمدة بعلبك الستة، شملته المرحلة الأولى من مشروع الإرث الثقافي بإقرار ترميم ثمانية عشر منزلاً في حي القلعة، وتخصيص مبلغ 20 ألف دولار أميركي لكلّ منها، بغية الحفاظ على تلك الأبنية الأثرية ومنعها من الانهيار. لكن التنفيذ لم يشمل سوى ثمانية بيوت فقط. أحد أجمل هذه البيوت التي رمّمت، ذلك الذي تملكه الحاجة «أم مصطفى الشياح»، وهو ترابي قديم تتوزّع غرفه على طبقتين، يفصل بينهما بهو كبير، ولا يزال يحتفظ في إحدى زواياه بتنور وموقد عربي. المنزل، الذي من المفترض أن يكون قد جرى تأهيله في إطار المرحلة الأولى من المشروع، يؤكد صاحبه محمد الشياح «أنه سينهار مع أول ثلجة، لأن أعمال الترميم التي طاولته سيئة جداً، ولا تليق بمشاريع تراثية لأنها شغل بازاري». وهذا ما يظهر جلياً للعين، إذ إن آثار تسرّب المياه إلى داخل الغرف واضح على السقف والجدران، كما نشهد بوضوح آثار انهيار أجزاء من الجدران الداخلية، والشروخ في معظم جذوع اللزّاب التي تشكل دعائم أساسية لسقف المنزل.
الشياح أبدى استياءه العارم من حالة «التخريب» التي تعرّض لها منزله، الذي يتجاوز عمره القرن، والذي ورثه هو وأشقاؤه عن أهله. يشرح طريقة الترميم التي اعتمدت بالقول: «نزعوا طبقة الباطون التي كانت تحمي طبقة التراب وخشب الشوح واللزاب، وعمدوا إلى وضع قصب الخيزران فوق اللزاب، ومن ثم «رولو الزفت»، وفوقها طبقة من البحص، الأمر الذي سمح للمياه بالتسرّب وتخريب المنزل بأكمله». برأيه: «يا ريت بعدو البيت على التراب والمحدلة، ما كان صار فيه هيك».
زكريا الزكرة، صاحب أحد المنازل في حي القلعة، يشكو من العمل السيئ ذاته. وهو يطالب النيابة العامة بأن تفتح تحقيقاً في المشروع الذي «كان من المفترض أن يحوّل منازلنا إلى بيوت للضيافة لاستقبال السياح والزائرين، على أن يستكمل ذلك بدورات تأهيلية وتدريبية لأصحابها على كيفية إدارة هذه البيوت، لكننا لم نحصل إلا على الترميم السيئ والتهجير، بالإضافة إلى إقفال محالّنا بموجب خطة السير التي اعتمدت».
سوء تنفيذ أعمال مشروع الإرث الثقافي في مدينة الشمس لا يتحدّث عنه أهالي حي القلعة فقط، بل يؤكد عليه أيضاً نائب رئيس بلدية بعلبك المهندس عمر صلح، الذي أشار إلى أن البلدية «لم تتسلّم أعمال الترميم، بالنظر إلى عدم التقيّد بالمواصفات التي جرى الاتفاق عليها». وهو يؤكد أن «ستة منازل منها آيلة إلى السقوط مع أي عاصفة مطرية أو ثلجية».
أما بسام رعد، رئيس اتحاد بلديات بعلبك، والذي كان رئيس بلدية بعلبك إبان تنفيذ مشروع الإرث الثقافي، فقد أوضح لـ«الأخبار» أن المرحلة الأولى بدأت في أيلول من العام 2005، لكن مشاكل عديدة طرأت على سير العمل، في مقدمها «سوء التنفيذ من قبل المتعهد وغياب العمال، وقد أدت جميعها إلى التأخير في التنفيذ». ومن المرجح، بحسب رعد، أن تنطلق أعمال مشروع الإرث الثقافي رقم 2 قريباً «بعد استكمال بعض أمور التمويل، ومن ضمنها متابعة أجزاء المرحلة الأولى التي لم تنفذ»، كاشفاً عن جهود تبذل مع جهات مانحة لإقامة دورات تأهيلية وتدريبية لأصحاب بيوت الضيافة في حي القلعة، مشيراً إلى رفض مشروع تقدم به إيطاليون، تعهدوا فيه بإجراء شركة خاصة دورات تدريبية، شريطة أن يكون لهم حصة في الاستثمار.
من جهته، رأى المهندس راشد سركيس، عضو بلدية بعلبك، خلال فترة تنفيذ المشروع، وأحد المهندسين الذين واكبوا مشروع الإرث الثقافي، أن المسؤولية في المشروع تتوزّع بنسب متفاوتة على مراجع عدة، «بما فيها البلدية التي وافقت على المشروع، والتي يحق لها في كل مرحلة من مراحل العمل التدخل لإيقاف العمل أو تصويبه، لكونها تتمتع بمختلف المعطيات القانونية والعملية على الأرض. وفيما لو لم يستجب مجلس الإنماء والإعمار، فهناك سلطات عديدة أعلى يمكنها الاستماع». ويضيف إن «المسؤولية يتحملها مجلس الإنماء والإعمار، ومصادر التمويل والدولة اللبنانية، بالإضافة إلى الاستشاري الذي درس المشروع، والاستشاري الذي أشرف على التنفيذ، وصولاً إلى المتعهد، وكلّ من هؤلاء يمثّل فريقاً بحد ذاته لا يمكنه بشكل من الأشكال التملّص من مسؤوليته بحجة الغير والآخرين».



مسؤولية «الإنماء والإعمار»

يشدّد رئيس اتحاد بلديات بعلبك، بسام رعد، على أن سوء تنفيذ المرحلة الأولى من مشروع الإرث الثقافي في بعلبك «فرض علينا كبلدية إرسال مهندسين بشكل متواصل للكشف على أعمال الترميم. وبنتيجة ذلك، توجهنا إلى مجلس الإنماء والإعمار بأكثر من50 كتاباً خطياً نعترض فيها على الأعمال، فكان الرد بتصحيح بعضها وترك معظمها».
وعن المسؤولية التي تتحملها البلدية، رأى رعد أنها لا تتعدى «الضغط على مجلس الإنماء والإعمار من أجل إنجاز مراحل المشروع. وما عدا ذلك، فهي على عاتق مجلس الإنماء والإعمار الذي لزّم المشروع للشركة المشرفة».