في سبيل الربح السريع، تجاهلت شركة «هولسيم - لبنان» جميع القوانين التي تضمن الحق في البيئة السليمة. تشير دراسة نشرتها وزارة البيئة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2022، إلى أن «هولسيم - لبنان» دمّرت على مدى 95 عاماً، نحو 3 ملايين متر مربع من الأراضي في بلدة كفرحزير. وفي الأعوام العشرة الممتدّة من عام 2007 حتى عام 2018 استخرجت نحو 34 مليون متر مكعب من الصخور. وبحسب الدراسة، فقد قدّرت فيها الخسائر البيئية في محافظة الشمال وحدها بـ809 ملايين دولار، فكانت حصّة الشركة منها هي الأكبر قياساً على حصّتها السوقية الكبرى. وبالإضافة إلى الضرر الذي تسببت به المقالع، خزّنت شركة «هولسيم لبنان» مادة الـ«كلينكر» في الهواء الطلق قرب البحر، وفرّغت مادة الـ«بتكوك» النفطية المستخدمة في إشعال الأفران على الشاطئ، وشوّهت وغيّرت الشواطئ البحرية المحيطة بمعملها، إضافةً إلى سرقة الرمول وبناء السناسيل البحرية، ومنع الناس من حقهم في التوجه نحو البحر الذي يُعدّ ملكيّة عامة.ما تسبّبت به معامل الترابة في الشمال، ومعمل «هولسيم لبنان» تحديداً، لا يقف أثره عند إعادة تشكيل جغرافيا المنطقة باقتلاع الجبال وتفتيت الصخور، بل يشمل انتشار ما يُعرف بـ«الغبار الدقيق»، أو الجسيمات الدقيقة التي يقل حجمها عن 2.5 ميكرومتر، والتي يمكنها الانتقال جواً بالتيارات الهوائية لتجوب مناطق أبعد من نقاط تمركز معامل الترابة في الشمال، وهذا «الغبار المنقول جواً» يسبّب القلق الأكبر للجمعيات الطبيّة المتخصّصة في أمراض السرطان، كون التعرّض له يرتبط بسرطانات الرئة. وفي هذا السّياق، سجّلت منظمة «غرينبيس»، في تقريرها حول جودة الهواء الصادر في تشرين الأول 2022، نحو 162 يوماً تجاوز خلالها التلوث بالجسيمات الدقيقة الحدّ المسموح به في كفرحزير، قرب معمل «هولسيم»، ما يعني أن هواء المنطقة يكون ملوّثاً خلال 62% من أيام السنة.
خلال أيام عمل معمل الترابة الخاصة بشركة «هولسيم»، سجّل جهاز الرصد الذي زرعته منظمة «غرينبيس» في كفرحزير حدّاً أقصى بلغ 69 ميكروغراماً من الجسيمات الدقيقة متجاوزاً الحد المقبول به عالمياً والبالغ 5 ميكروغرام من الجسيمات الدقيقة لكلّ متر مكعّب من الهواء بـ14 مرة. أما متوسط تركيز المواد المسرطنة خلال فترة الرصد التي امتدت على 107 أيام، فبلغت 22 ميكروغراماً متجاوزاً بشكل دائم الحد المقبول به عالمياً. وهنا، حذّرت «غرينبيس» في تقريرها من «التلوث بالجسيمات الدقيقة» أو ما يُعرف بـ«الغبار المجهري»، إذ يعتبر أخطر بأشواط من الملوّثات الكيميائية، أو الانبعاثات الصادرة عن مداخن المصانع والمولّدات.
ساهمت صناعة الترابة في انبعاث 1500 جيغا غرام من غاز ثاني أوكسيد الكربون في الجو عام 2019


صناعة الترابة في لبنان ضربت عرض الحائط بالاتفاقيات والبروتوكولات البيئية الـ20 التي انضمّ إليها لبنان خلال 40 سنة مضت أيضاً. إنتاج الإسمنت يُعدّ من الصناعات ذات البصمة الكربونية الهائلة، أي يتسبب بانبعاث كميات كبيرة من غاز ثاني أوكسيد الكربون المسؤول الأول عن ارتفاع درجات الحرارة. وفي لبنان ساهمت صناعة الترابة وحدها بإطلاق نحو 1500 جيغا غرام من غاز ثاني أوكسيد الكربون في الجو عام 2019، ما نسبته 41% من الانبعاثات، ولا تنافسها على المركز الأول في تلويث البيئة أيّ من الصناعات الأخرى في لبنان، حتى توليد الكهرباء، ويأتي من بعدها في التسبب بانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون التكييف والتبريد.
خلال عملية تصنيع الإسمنت يصدر غاز ثاني أوكسيد الكربون مرتين، الأولى بسبب التفاعل الكيميائي الحاصل عند تسخين الصخور المستخرجة والمفتّتة في الأفران لإنتاج مادة «الكلينكر»، والثانية عند استخدام مادة «البتكوك» لتسخين الأفران للوصول إلى درجة حرارة عالية تناهز 1300 درجة مئوية بتكاليف بسيطة مقارنةً مع أنواع أخرى من الوقود. ولكنّ أضرار استخدام الـ«بتكوك» على البيئة أكبر من أن تُحصى لاحتوائه على نسبة عالية من الكبريت تصل في بعض الأحيان إلى 4%، ما يؤدي إلى انبعاث غازات أوكسيدات الكبريت عند احتراقه التي تنتقل بسبب حركة الهواء إلى المناطق المجاورة، وعند هطول الأمطار، تتفاعل أوكسيدات الكبريت الموجودة في الجو مع المياه، ما يحوّل الأمطار إلى ما يُعرف بـ«الأمطار الحمضية»، وبدورها تتسبب هذه الأمطار بتلف المزروعات والغابات.



شمال لبنان
«هولسيم» هي أولى شركات الترابة المُنشأة في لبنان. أسّسها في ظل الاستعمار الفرنسي في عام 1929 المطران أنطوان عريضة والبطريركية المارونية. احتلّ معملها جزءاً من ساحل الهري في شكا شمال لبنان، وارتفع إنتاجها بشكل سريع، من نحو 49 ألف طن عام 1938 إلى 100 ألف طن سنة 1940، وفقاً لمصادر تاريخية. وبسبب ارتكاز الاقتصاد اللبناني منذ ذلك الوقت على الاحتكارات، وخدمة مصالح أرباب العمل، وبسبب ارتباط أصحاب شركات الإسمنت مع السلطات السياسية المتعاقبة كما الدينية، توسّعت أعمال شركتَي الإسمنت بشكل كبير، وأنشئ المقلعان غير المرخّصين لاستخراج الصخور، في كلّ من كفرحزير وبدبهون، وهما مقلعان يرتبطان عملياً وتشغيلياً بالمعامل عبر أحزمة ناقلة، ومنذ ذلك الحين ظلّ مقلعا كفرحزير وبدبهون يتمدّدان تدريجياً ومن دون قيود.