نظّمت أمس، الأمانة العامة في مجلس النواب، ندوة بعنوان «الخيارات النقدية ونظام سعر الصرف تحت ضغط الدولرة الزاحفة». عرضت في الندوة ورقة بحثية للأستاذين الجامعيّين جان فرنسوا بونسو، من جامعة غرينوبل الفرنسية، وسهام رزق الله من جامعة القدّيس يوسف. النقاش تركّز حول مسألة الإدمان على الدولرة في ظل ثلاثة خيارات: تعايش الليرة والدولار كما يحصل الآن، إعادة إنتاج عملة وطنية جديدة ترتبط بالدولار، لكن بقيمة أفضل، أو الدولرة الشاملة بعد إلغاء العملة الوطنية. يميل الباحثان نحو اعتماد مجلس نقد يدير «التعايش»، لكنّ اقتراحهما لم يناقش في العمق انطلاقاً من بنية نموذج الاقتصاد السياسي للبنان، بمقدار ما كان نقاشاً «على السطح» يتعلّق بمقارنات مع دول أخرى اعتمدت هذا النظام وسلبياته وإيجابياته. فعلى سبيل المثال، يحبّذ مجلس النقد تدفق الدولارات، والهجرة أمر مهم جداً في هذا الأمر بالإضافة إلى السياحة. لكنّ التجربة اللبنانية تقول إن هذا المسار يفرغ لبنان من شبابه وقدراته الإنتاجية ويحوّل الرساميل المتدفقة إلى الاستهلاك المستورد. فما سيقدّمه مجلس النقد لا يختلف كثيراً عن الوضع الحالي، باستثناء إلغاء المصرف المركزي وفتح الحدود على مصراعيها لهجرة الشباب مقابل البضائع الاستهلاكية.يعتقد بونسو أن لبنان لم يصل إلى الدولرة الحقيقية التي تقوم على تثبيت الأسعار والخدمات والسلع وحتى الأجور بالدولار، إلا أنه رغم ذلك فإن الاقتصاد اللبناني مدولر منذ عشرات السنوات «وربما يمكن القول من بدايات الثمانينيات». وفي ذلك الحين «اعتُمدت الدولرة منذ الثمانينيات بشكل جزئي وكأمر واقع من قبل الهيئات الاقتصادية، وسط عجز الدولة عن اتخاذ موقف، إلى أن تمأسست بدءاً من العام 1993 من خلال المصرف المركزي الذي اعتمد سياسة التحرير المالي ودولرة الودائع والمحفظات المالية والتعويض بالدولار. وفي النهاية، وصلنا إلى نظام ثنائي العملة دولار وليرة». والخطيئة الأصلية، بحسب بونسو «بدأت مع الاستدانة من الخارج بالعملات الأجنبية، ما راكم خسائر وعجزاً بالدولار أدى إلى زيادة الدولرة. وبعد عام 2010، وبسبب الهندسات المالية، كانت الطريق معبدة بالكامل للوصول إلى أزمة 2019». أما الآن، وبعد انفجار الأزمة في 2019 تقدّمت الدولرة وتثار حولها أسئلة: «هل علينا تسريع الدولرة أم إبطاؤها؟»، «هل يجب تشريعها أم إنتاج عملة وطنية أكثر موثوقية من الليرة؟».
الخيارات المتاحة وفق بونسو، تقع بين «الحفاظ على العملة الوطنية واستبدال الليرة بعملة أخرى مرتبطة بالدولار أيضاً، ولكن ذات قيمة أفضل. أو بقاء الوضع الحالي القائم على تعايش الليرة مع الدولار في سوق واحدة بلا تشريعات جديدة أو التزامات طويلة الأمد. أو خيار إلغاء العملة الوطنية والاعتماد على الدولار حصراً».
مجلس النقد يلغي المصرف المركزي ويعتمد على تدفّق الدولار المستدام


الدراسة التي قدّمها بونسو ورزق الله بنيت على بعض المقارنات في الخيارات المتاحة وأمثلة عن الدول التي اعتمدت الدولرة الكاملة أو مجلس النقد، أو الدمج بين الدولرة ومجلس النقد الذي يقوم على تغطية العملة الوطنية بالدولارات. الخيار الأخير يتطلب «قطاعاً مصرفياً قوياً وإعادة تشغيل دينامية القروض»، فضلاً عن أنه في ظل مجلس النقد لا ضرورة لوجود بنك مركزي، كما أنه «يجب إدخال الدولارات إلى لبنان بشكل مستمرّ ومستقرّ، وبناء نظام قادر على التصدير بشكل دائم، إذ إن الدول التي تعتمد على بيع المنتجات إلى الخارج تحصّل دولارات أكثر». لكن الاقتصاد اللبناني غير قادر على التصدير الصناعي أو الزراعي، بينما «الاستدانة من الخارج لتعويض سيل الدولارات لها مخاطرها غير المضمونة، علماً أن لبنان من الدول التي توقفت عن دفع الدين الخارجي». في المقابل، لبنان لديه ميزة «المغتربين القادرين على رفد البلاد بسيل مستقر من الدولارات، والقطاع السياحي يمكن أن يساهم أيضاً ولكن هذا الأمر يحتاج إلى استقرار اقتصادي».
أما لجهة المفاضلة بين الدولرة الشاملة ومجلس النقد، فيعتقد بونسو ورزق الله أنّ مجلس النقد يحافظ على العملة الوطنية، ويلفتان إلى أن «مجلس النقد يسمح بخلق هامش للتحكم بالسوق، ويساعد على الإصلاح النقدي السريع، بينما الدولرة تدفع نحو فقدان دور الدولة بشكل كامل. فالأرجنتين قطعت شوطاً طويلاً في الإصلاح بعد الاعتماد على مجلس النقد، لكن بعد عام 1995 بدأ التراجع بسبب اعتماد سياسات مغايرة، إذ يستحيل اعتماد الخيارين معاً. أما في الاكوادور، التي تخلّت في عام 2000 عن عملتها واعتمدت الدولار عملة رسمية، فإنهم لجأوا إلى سحب قدرة المركزي على طباعة العملة حتى لا تتكرر عمليات تمويل مصارف تجارية تابعة للنافذين، ما أدى إلى استقرار سياسي دام لنحو 15 عاماً في ظل تضخّم معتدل. لكن الدولة «أدمنت على الدولارات»، إذ إن الخروج من الدولرة الشاملة يتطلّب إنتاج عملة وطنية جديدة تكون موثوقة بقدر الدولار، وهذا شبه مستحيل.
في المحصّلة، «لا حلّ مثالياً للوضع في لبنان، بل مقترحات تنطوي على إيجابيات وسلبيات، علماً أن الأمور أصبحت أكثر تعقيداً الآن بعد مضيّ أربع سنوات على أزمة متعددة الأبعاد، وبلا إصلاحات، فيما يصبح الإدمان على الدولار غير قابل للرجوع عنه.