لا شكّ بأن حجم الخسائر المقدّرة في القطاع الزراعي بقيمة 3 مليارات دولار هو رقم منفوخ جداً. والغاية من هذا النفخ واضحة، إذ اعتاد مسؤولو لبنان على إطلاق آليات التسوّل عند كل حدث ضخم، كالحرب أو النزوح السوري... وبالفعل، ركّز رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، على وجوب إعلان الجنوب منطقة منكوبة زراعياً، لكن النائب علي عسيران، في ردّ فعل مباشر على كلام ميقاتي، بدا مهتماً أكثر بإعلان اقتصاد الجنوب كلّه منكوباً تاريخياً، ليخلص إلى أن الدولة سرقت الودائع!
(الأخبار)

موقف ميقاتي جاء بناءً على تقارير أعدّتها وزارة الزراعة. التقديرات التي كشف عنها وزير الزراعة عباس الحاج حسن تشير إلى أن حجم الخسائر بلغ 3 مليارات دولار بعد تضرّر 800 هكتار من الأراضي الزراعية بشكل كامل، وفقدان 340 ألف رأس ماشية، بالإضافة إلى خسارة في دخل 75% من المزارعين. لكن إلى أيّ مدى يمكن أن يكون لهذه التقديرات صدقية في عيون الدول المانحة؟ فالأرقام المتاحة من وزارة الزراعة، تشي بشكل مباشر إلى أن حصّة أقضية الجنوب والنبطية من الإنتاج الزراعي النباتي والحيواني لا تتجاوز 650 مليون دولار، إذا اعتبرنا تقديراتها عن الإنتاج الزراعي الإجمالي في كل المناطق دقيقة أصلاً. وحصّة هذه المناطق من المساحات المزروعة ليست كبيرة أيضاً، ففي المناطق الجبلية تتميّز هذه المناطق بزراعة التبغ والزيتون، وفي المناطق الساحلية تتميّز بالحمضيات. حصّة محافظتي الجنوب والنبطية من مجمل المساحات الزراعية تبلغ 20%، أو ما يعادل 57 ألف هكتار، ويقدّر أن فيها إنتاجاً حيوانياً متواضعاً ربطاً بتضاريسها الجغرافية وتراجع نسبة المراعي الطبيعية، والتراجع الاجتماعي بالاهتمام بهذا النوع من الحيوانات. وفق أرقام وزارة الزراعة في عام 2021، فإنّ مجمل إنتاج التبغ يقدّر بنحو 257.8 مليار ليرة، أما مجمل إنتاج الحمضيات فيتركّز في محافظة الجنوب وخصوصاً في المناطق الساحلية بمساحة 7546 هكتاراً تنتج 135 ألف طن بقيمة 652 مليار ليرة، أي ما يعادل 75% من مجمل إنتاج الحمضيات في لبنان. أما إنتاج الزيتون فيتركّز في محافظة النبطية ويمتدّ على مساحة 11155 هكتاراً وينتج 14438 طناً بقيمة 375 مليار ليرة، بينما في محافظة الجنوب يزرع الزيتون في 6900 هكتار وينتج 8545 طناً من الزيتون بقيمة 216 مليار ليرة. بمعنى أوضح، حصّة محافظتي الجنوب والنبطية من المساحات الزراعية وقيم الإنتاج الزراعي لا تشير إلى أن الأضرار في الأراضي والأشجار قد تصل إلى مبلغ 3 مليارات دولار، ولا سيما أن مناطق النزاع ما زالت محصورة بالنبطية بشكل أساسي وبمناطق محدّدة فيها هي خطوط القرى الأمامية المواجهة للحدود مع فلسطين المحتلّة.
على أي حال، ما سيقدّمه المانحون للبنان هو فعل سياسي لا علاقة مباشرة له بحجم الضرر المتحقق فعلياً. هذا تحديداً ما تعوّل عليه النخب السياسية الحاكمة، لكنها تتسوّل على حساب قطاع غير مرغوب فيه أصلاً. ففي محاضرة له قبل بضعة أشهر، قال مدير مركز الأبحاث والدراسات الزراعية اللبنانية CREAL رياض سعادة، إن الناتج الزراعي يتراجع منذ عام 1975 بشكل متواصل، حتى أصبح في عام 2021 نصف ما كان عليه في عام 1976، وثلث ما كان عليه في ذروته في عام 1986. وبحسب مؤشرات البنك الدولي، فإن القيمة المضافة التي يولّدها القطاع الزراعي في الاقتصاد الوطني، كانت 6.5% من الناتج المحلي الإجمالي في 1994، ثم انخفضت إلى 1.4% في 2021. وهذا المسار التنازلي هو جزء لا يتجزّأ من التحوّل في بنية الاقتصاد اللبناني نحو التطرّف الريعي انطلاقاً من مطلع التسعينيات. يمكن توزيع هذا الانحدار على مرحلتين: منذ مطلع التسعينيات لغاية 2019، تراجع مؤشّر البنك الدولي لمساهمة القيمة الزراعية المضافة في الناتج الوطني نحو 45%، بينما في سنوات الأزمة تراجع 60%.
مليار دولار تدفقت إلى وزارة الزراعة منذ 1992 من دون أن تظهر جدواها


كان التركيز في كل تلك السنوات ينصبّ على القطاع المالي والقطاعات اللصيقة به. قطاع المصارف كان الأساس لأنه القناة التي تستقدم عبرها الأموال إلى لبنان. أما القطاعات اللصيقة، فهي كانت تستقطب الأموال بسبب هوامش الربحية المرتفعة منها مثل القطاع العقاري. والقطاع الخدماتي في السياحة والسفر كان أيضاً محرّكاً أساسياً لتوليد أرباح بمعدلات تفوق معدلات الفوائد المصرفية. لذا، لم يكن نصيب القطاع الزراعي سوى مساهمة ذات بعد سياسي متصلة مباشرة بزراعة التبغ في الجنوب والشمال. أما المساهمة الكبرى، أي التمويل الخارجي الذي أتى إلى وزارة الزراعة على شكل هبات وقروض بقيمة بلغت منذ 1992 نحو مليار دولار، بالإضافة إلى تنفيذ 263 مشروعاً لم يكن لها أي أثر في القطاع، بل نُهبت كما نُهبت الودائع. ولم تسعَ السلطة في أي وقت إلى تنظيم هذا القطاع الذي تنهشه حلقات من التجّار، سواء تجّار المبيدات والأسمدة، أو تجار الجملة وكبار المصدرين، أو حتى تجار نصف الجملة. في الواقع، إن العنصر الأول في الحلقة الزراعية، أي المزارع، هو الخاسر الأكبر، ويليه في الخسارة العنصر الأخير، أي المستهلك. مصدر الخسارة أن كلفة الإنتاج مرتفعة جداً (كلفة استصلاح الأرض، كلفة الضمان، كلفة التجهيز والريّ، كلفة الأسمدة، كلفة القطاف...)، أما بالنسبة إلى المستهلك، فإن تثبيت سعر الصرف بقوّة شرائية مبالغ فيها، أتاح للمستهلكين، طوال السنوات الماضية، شراء السلع الزراعية المستوردة التي تنافس الإنتاج المحلي. صحيح أن هذا الأمر انتهى بنهاية ثبات سعر الصرف، لكن التثبيت يعود مجدداً بكل التشوّهات الجديدة التي نتجت من انهيار 2019.
بهذا المعنى، إن الندب على الخسائر في القطاع الزراعي، والنفخ في أرقامها، كان يمكن أن يكون حقيقة لو قرّرت السلطة السياسية بناء هذا القطاع أساساً. هي لا تريده بكل ما فيه. تعاملها مع الأزمة يحمل هذا المدلول بشكل واضح، إذ لم يتمّ توجيه أي قرش من أموال الدعم التي أنفقت على استيراد السلع الجاهزة من الخارج، نحو قطاع الزراعة، ولا حتى نحو قطاع الصناعات الزراعية، أو حتى نحو الصناعة بشكل عام. بالنسبة إلى السلطة، لا مكان للإنتاج في منطقها. لا ضرورة له طالما أن السلطة قادرة على «التسوّل» في الاقتصاد و«البيع» في السياسة. السياسات الزراعية تشبه، في منطق السلطة، نفخ الأضرار، إذ لا ترى نفعاً منها سوى «التسوّل» الذي تحوّل إلى «مهنة» تمارسها النخب السياسية الحاكمة منذ سنوات طويلة.