تُعدّ أرباح الشركات مؤشراً إلى نموّ الحركة الاقتصادية أو تقلّصها.رغم حديث الحكومة اللبنانية عن «بدء التعافي الاقتصادي»، إلا أن مؤشّر التصريح عن الأرباح وتسديد الضرائب يدلّ على العكس تماماً. فالأرباح التي كانت تصرّح عنها المصارف كانت تمثّل أكثر من نصف الإيرادات الضريبية، والباقي مصدره عدد محدود من الشركات الكبرى. فمن أين ستأتي الإيرادات اليوم؟ وهل هذا مؤشّر إلى «بدء التعافي الاقتصادي» كما قال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي؟ ما هو واضح في موازنة 2024، أن الإيرادات ستتأتّى من الضرائب غير المباشرة على الاستهلاك، وليس من ضرائب الأرباح التي انكمشت بنسبة 82% بين عامَي 2018 و2024. وهذه المسألة لا تتعلق بتعافي أرباح الشركات، بل في أن الشركات باتت تمتنع أكثر من السابق عن التصريح في ظل نظام ضريبي غير فعّال وغير عادل ومع الانهيار ازدادت حدّة الثغرات فيه. بدلاً من الإصلاح الضريبي، كرّرت الحكومة الأداء الذي مارسته منذ التسعينيات لغاية 2019.

6.9%

هي حصّة إيرادات ضريبة الدخل المقدّرة لعام 2024 من الإيرادات الضريبية الإجمالية، مقارنةً مع 11.3% في 2018، أي إنّها تراجعت بمعدل 40%.


من الطبيعي أن يكون الانكماش الاقتصادي قد أسهم في انخفاض الأداء المالي للشركات في لبنان، خصوصاً خلال الأزمة الاقتصادية التي ضربته. لكنّ الانكماش في أداء الشركات لم يكن متناسباً مع الانكماش في الناتج المحلّي، بل تعرّض إلى انكماش أعنف من الذي تعرّض له الناتج المحلّي. على الأقل، هذا ما تقوله أرقام الموازنة. ففي عام 2018، أي قبل الأزمة بنحو سنة، بلغ حجم الضرائب على الأرباح نحو 1.8% من الناتج المحلّي، أي نحو 990 مليون دولار. إلا أن هذه النسبة انخفضت إلى 1% في موازنة عام 2024، أو ما قيمته 187 مليون دولار. وهكذا انخفضت نسبة الضرائب قياساً إلى الناتج المحلّي بنحو 45%.
أحد عوامل هذا الانخفاض، يعود إلى التغيّر الجزئي في الهيكل الاقتصادي على مستوى البلد. فمحور الأزمة كان يدور حول القطاع المصرفي، الذي هو أحد أكبر القطاعات الاقتصادية اللبنانية. وقد مثّل هذا القطاع ركيزة تعتمد عليها الحسابات الخارجية للبنان، من ميزان المدفوعات والحساب الجاري، والتي تقيس العملات الصعبة الداخلة والخارجة من وإلى الاقتصاد. بمعنى، أن التدفقات الآتية عبر القطاع المصرفي كانت تغطي العجز الناتج عن الميزان التجاري، ولولا هذه التدفقات لما كان ميزان المدفوعات ليحقق أيّ فوائض، وهو ما جعل القطاع المصرفي جزءاً مهماً من الهيكل الاقتصادي اللبناني. لذا، كان جزء كبير من الأرباح في الاقتصاد الوطني يتكوّن من أرباح المصارف. وكانت هذه الأخيرة تجاهر بأرباحها وتسعى إلى إظهارها من أجل إبراز صورة القطاع المصرفي والإيحاء بأنه يعمل بشكل سليم تحت عنوان «الثقة» التي تضمن استمرار التدفقات النقدية إليه. وما يعزّز هذا الأمر هو النتائج في عام 2018، إذ بلغت أرباح المصارف نحو 2.234 مليار دولار، أي ما يُقدّر بنحو 4% من الناتج المحلّي، وبلغت الضريبة على أرباح المصارف في تلك السنة نحو 558 مليون دولار، أي 1% من الناتج المحلّي. بمعنى آخر، إن ما يقارب 56% من إيرادات الضريبة على الأرباح في عام 2018 أتى من القطاع المصرفي، وهي نسبة وازنة، وأي تغيّر في القطاع المذكور يمكن أن يؤثّر على المالية العامّة للدولة بشكل هائل. فكيف يكون الحال إذا كان الحدث هو انهيار القطاع المصرفي بشكل شبه تامّ؟ بعد الأزمة، أصبحت المصارف تُسجّل خسائر في بياناتها المالية، وهو ما أضرّ بشكل كبير في الإيرادات الضريبية على الأرباح.

الانكماش في أداء الشركات أعنف من الانكماش الظاهر في الناتج المحلّي


من ناحية أخرى، هناك قطاعات ضخمة كانت تعتمد على القطاع المصرفي، تضرّرت كثيراً مع حالة انهياره، وهذه القطاعات لم تعد تحظى بحجم الأعمال نفسه، لأنها كانت تعتمد على التمويل المصرفي الذي توقّف كلياً بعد انهيار القطاع. ولعلّ أهم هذه القطاعات هو قطاع التطوير العقاري، وتحديداً البناء، الذي تضرّر بشكل كبير بسبب تدهور الوضع المصرفي. فالتمويل المصرفي كان يُغذّي جانبَي العرض والطلب في قطاع البناء، من خلال تمويل المطوّرين العقاريين من جهة، وتقديم قروض الإسكان المدعومة من مصرف لبنان من جهة أخرى. ومع اختفاء هذا التمويل، تضاءل حجم هذا القطاع وانخفضت أرباحه.
بشكل عام، لا تعود كل أسباب انخفاض نسبة الضرائب على الأرباح من الناتج المحلّي إلى الأزمة فقط. فهناك عوامل سابقة للأزمة كانت موجودة أصلاً، وهي عوامل تتعلّق بطبيعة النظام الضريبي اللبناني، ومدى فعاليته. وإذا قارنّا هذا المعيار بين لبنان وبلدان أخرى، يظهر أنه حتى قبل الأزمة كانت هذه النسبة أقل من تلك القائمة في بلدان أخرى، كالأردن، القريب على مستوى الجغرافيا من مساحة لبنان، والذي يُشبه اقتصاده الاقتصاد اللبناني. ففي عام 2023 بلغت نسبة الضرائب على الأرباح في الأردن نحو 3% من الناتج المحلّي، وهو رقم أعلى مما كان في لبنان في عام 2018 حيث بلغ 1.8% من الناتج المحلّي اللبناني. حتى إن بلداناً رأسمالية مثل فرنسا، تبلغ فيها هذه النسبة نحو 2.12% من الناتج المحلّي، كما تبلغ في تركيا 2.5%.
يفسّر عدد من الخبراء هذا الأمر بأن المشكلة تكمن في السياسات المالية (الضريبية ضمناً). فقد كانت نسبة الضريبة على أرباح الشركات في لبنان 17%، في حين تبلغ هذه الضريبة نحو 20% في الأردن و25% في تركيا و33% في فرنسا. يحصل هذا في لبنان الذي كان يعاني من عجوزات مستمرّة في الموازنة العامّة. أسهمت العجوزات في زيادة الدين العام وكلفة خدمته، حتى بلغ حجم الدين نسبة إلى الناتج المحلّي 172% قبل الأزمة في عام 2019. كما أن آليات تطبيق النظام الضريبي في لبنان قديمة، وهو ما يُسهّل مهمّة التهرّب الضريبي لدى الشركات، التي تملك غالبيتها أكثر من «دفتر» محاسبي لتسجيل الأرباح.
يُشكّل حجم الضرائب على الأرباح أحد المعايير لفهم ما كان يجري في الاقتصاد، خلال الأزمة وما بعدها بشكل خاصّ. فهو يظهر حجم الأرباح ومدى تأثّرها بالأزمة، كما يُظهر مدى فعالية السياسات الضريبية. لذا، يبدو مجدياً النقاش في فعالية السياسة الضريبية المتّبعة وآليات تحسينها بهدف تحفيز النمو الاقتصادي وتعزيز مداخيل الدولة وإعادة التوازن إلى آليات إعادة توزيع الثروة. تصحيح المسار المالي محاسبياً لا يكفي للقول بأن هناك سياسة تعافٍ حقيقية.