على متن سيارة، يتجوّل سائق بين رأس النبع وشارع قصقص إلى الطريق الجديدة وكورنيش المزرعة حتى رأس بيروت والحمرا، مبشّراً بحلول شهر رمضان. لا يستخدم المذياع ليقول كلاماً، بل يكتفي ببثّ أغنية «علّوا البيارق» كمؤشر على الترحيب بالصوم وطقوسه. كل تلك الطقوس وأجواء «الجمعة» الرمضانية، وثّقها الفنان المبدع أحمد قعبور في أغان بلّلت الصوم والإفطار والسحور بالبهجة والمحبّة و... حمت ذاكرة بيروت الاجتماعية والثقافية عندما كانت المدينة كلها حديقة منزلية كبيرة
في مقهى الروضة البيروتي، ضرب أحمد قعبور موعداً لنا. يعتبره من أكثر الأمكنة المنسجمة مع موضوع اللقاء: تحوّلات رمضان بيروت. فالتحوّلات التي طرأت على المدينة انسحبت أيضاً على المقهى ولو بحجم محدود. «قليلة، الأماكن التي لا تزال تحافظ على هويتها من طرازها إلى اسمها العربي والبحر المحاذي الشاهد علينا». يرتاد قعبور هذا المقهى منذ أكثر من خمسين عاماً.

(مروان بوحيدر)

زوجته تسمّيه «حديقة بيوتنا التي لم تعد موجودة في شققنا البيروتية». أرض ترابية وأحواض شجر وبركة وسطية. لكن الفارق الرئيسي لدى قعبور، فقدان المكان لناسه. «هنا مقاعد رفاق ناضلوا وحلموا بالتغيير مع بداية الحرب الأهلية، وهناك مقاعد الشعراء والأدباء والفنانين الذين رحلوا من دون بديل». يتراجع روّاد المكان الذي لا يستسيغه كثير من جيل «الكافيهات». على غرار رموز الأمكنة البيروتية، يخشى أن يواجه الروضة خطر الإقفال. «منذ مدة قصدته عند الثامنة ليلاً، فوجدته مقفلاً. أصحابه قلّصوا الدوام لعدم قدرتهم على تشغيل المولد الكهربائي لساعات طويلة». حزن قعبور على مصير آخر الملاجئ التي واكبت المدينة وناسها وزوارها في أتراحهم وأفراحهم، ولا سيّما في ليالي رمضان.
في بداية السبعينيات، كان قعبور من مرتادي السهرات الرمضانية في المقهى برفقة شقيقته الكبرى. حتى موعد السحور، كان العوّاد يعزف والحكواتي يسرد الحكايا الخرافية ويشخّصها، والمنشد يتلو الابتهالات الرمضانية. وبعد سنوات، أضيفت أغاني «علّوا البيارق» و«سعدا معكم» و«بيروت يا بيروت»... إلى برنامج تلك السهرات. قعبور استوحى بعض أفكار أغانيه الرمضانية من الروضة نفسه. الحكواتي ذو الطربوش والقنباز والشروال كان يشبه جدّه خليل، بطل «علّوا البيارق». والأخير صار ذكرى من ماضي بيروت. قبل أن يتوفّى عام 1968، كان آخر راعي ماعز في العاصمة. كان يسرح بقطيعه في تربة الداعوق بجوار حيّ صبرا. ومن تلال تلك المنطقة التي افترستها المباني، اجترح قعبور أيقونات رمضانية خالدة في «دار الأيتام الإسلامية». أغلب أغانيه الرمضانية الـ 22، شارك أطفالها في الغناء، بدايةً مع «سعدا معكم سعدا فيكم»، وأخيراً مع «أحو أحو، صندوق الفرجة افتحوا» التي لحّنها قعبور من كلمات عبيدو باشا، وأنتجت خلال شهر آذار الجاري.

مخزون من الذاكرة
كان هيّناً على قعبور تلبية طلب «دار الأيتام الإسلامية» عام 1984، لتقديم «علّوا البيارق» التي أصبحت أيقونة رصيده الرمضاني (غالبية الأغاني بطلب من الدار نفسها). فالمخزون الرمضاني البيروتي وافر لدى ابن الطريق الجديدة، الذي ولد في البسطا الفوقا ونشأ في البسطا التحتا، ثم في شارع حمد في قصقص، قبل أن يستقرّ في المصيطبة – مار الياس. في شارع حمد، كانت موسيقى الفجر لدى قعبور، تتوزّع بين كحّة والده المزمنة وحوافر الخيل الخارجة من الاسطبل المجاور لمنزله. وقبلها في البسطا التحتا، كانت موسيقى رمضان وقع الشوك والملاعق والسكاكين عند السحور التي دغدغت نوم الطفل ابن الثامنة. حينها، تعرّف من جدّه خليل إلى رمضان وطقوسه. تحمّس لمشاركة أهله في الاستيقاظ ليلاً للسحور، لكن جدّه «سحب منبّه الساعة كي لا أصحو، لأن أحمدتو لا يزال صغيراً». استفاق قعبور في ليلة اكتشاف السحور على صوت المسحراتي وهو يغادر الحيّ. شاهد ظلّه المتلاشي وسمع صوته الصادح بـ«يا نايم وحّد الدايم». التماسه الأول لرمضان وثّقه في «علّوا البيارق».
مخزون الذاكرة حفّزته عوامل أخرى لتحويل الصوم والإفطار والسحور إلى أغنية. «دوافعي كانت احترام قيمة رمضان الطقسية والثقافية ورفض الظواهر الدينية المتزمّتة من وعظ رجال الدين الترهيبي إلى الابتهالات الجامدة الجدية». تساءل: «شو طبّو يا ربّو، عن جدوى ربط الصوم بالعبوس وضيق الخلق بخلاف الصوم وعيد الميلاد لدى المسيحيين؟». ومن دوافع قعبور في غناء رمضان، «رفض الإفطارات التي درجت بعد الحرب الأهلية وارتبطت بالاستعراض السياسي والاجتماعي وبالنوايا الانتهازية للمحسنين».

على أيّ مدفع نفطر؟
لمس قعبور تحوّلات رمضان مع الحرب الأهلية، قبل أن تفتك به النزعة التجارية، وبعدها. تقطّعت سبل الأطفال الذين كان يرسلهم أهاليهم قبل الإفطار لشراء الحمص، أو لإرسال طبق لجيران الحي، كما كان يفعل. لم يعد يتسنّى لأهالي الحي التمتّع بالشوارع المضاءة بالزينة وبموسيقى الموائد الملونة خلال الإفطار وبروائح الطعام المنبعثة من النوافذ. صارت الغلبة للقصف والرصاص الطائش وخطوط التماس والخطف. يحفظ قعبور من والده تساؤله بحسرة: «لم نعد نعرف على أيّ مدفع نفطر؟». وهذا ما أشار إليه في «علّوا البيارق»، بطلبه من المسحراتي «وعَِي أهالينا... ضوّي ليالينا»، بعدما أصبح اللقاء مستحيلاً في الحرب. التحوّلات استفحلت بعد الحرب في رمضان بيروت. «غابت الزينة الورقية الملونة التي كان يصنعها أهالي الحي بأيديهم ويعلّقها الأطفال، واستبدلت بلافتات البلاستيك التي ترفعها المؤسسات التجارية والرعائية، ولا تصدر موسيقى عندما يتغلغل فيها الهواء كما كانت الزينة الورقية تفعل». كما غاب المسحراتي ذو الطبل الصغير المترجّل بين الأحياء وينادي كلاً باسمه.
كانت موسيقى رمضان وقع الشوك والملاعق والسكاكين عند السحور

«الآن، المسحّراتية يوقظون الناس بالدرامز، مستخدمين مكبّرات الصوت ويجوبون الشوارع بالسيارة أو الدراجة النارية. لم يعد لي رغبة بأن أرى ماذا يلبس أو أسمع صوته المزعج. حتى طال التشويه صوت الآذان والصلوات وقت الإفطار والسحور. تضاربت الأصوات العالية الصادرة من الجوامع الكثيرة في وقت واحد، فلم تعد طقساً موسيقياً جميلاً كما كانت». وأكثر ما يستفزّه، «السبونسور» الذي يزدهر في رمضان على وسائل الإعلام «فيصبح المسلسل والنشرة الإخبارية وحتى الآذان والأدعية برعاية ماركة زيت أو مسحوق لجلي الصحون!».

الجيل الجديد
يسرد قعبور لائحة طويلة من مسبّبات الأسى الذي أصاب بيروته حتى صار يخاف عليها «من الترويض والاستبداد الديني وغيره وقمع التنوّع». لكن تلك المآسي تجعله يتمسّك بالحلم أكثر. «كلّما أسمع أغاني تصدح في الشوارع، أوقن بأنّه لا يزال لديّ الكثير لأقوله، وعليّ بأن أقدم ذاكرة للجيل الجديد». فرحة الأطفال برمضانياته من «مرحى جيبوا الطرحة لبيروت» إلى «حلونجي يا اسماعيل»، حفّزته لتعزيز علاقته برمضان «كقيمة للمحبة والتلاقي والتسامح بوجه التعصب والتقوقع». فوضع لصيدا أغنيتها الرمضانية الخاصة، كما فعل مع بحر العيد فيها ومع حرج العيد في بيروت. وقبل خمس سنوات، خصّص لطرابلس الحزينة أغنيتها الرمضانية بإيقاع موسيقي لاتيني. «تبقى الأفراح عامرة بطرابلس... كل اللي راح رح يرجع لطرابلس» قال للفيحاء. كما أنشد لرمضان مؤسسات الإمام موسى الصدر. «أريد أن أعيد في كل رمضان نهج جدي خليل القائم على أن الشهر الفضيل هو للفرح والناس وللنعمة واللقمة الحلال، وليس للنكد ورجال الدين. في الغرب يحتفلون بالأعياد الدينية وأنتجوا لها عشرات الأفلام والأغاني المليئة بالفرح وحفظناها نحن في العالم العربي. فلماذا لا نصنع ثقافتنا الخاصة؟ لأن رمضان بستان نحن زهوره... يا محلا نوره... بيروت الي قلبها بيطعمي وما بتسأل».