خلال ما سُمّي بالهدنة الجوية التي اضطرّت حكومة العدو لإعلانها بُعيد ارتكابها مجزرة قانا 2 خلال عدوان تموز 2006، استغرقت الرحلة من صيدا إلى بنت جبيل أكثر مما يستغرقه السفر إلى باريس، فكلّ الدروب لا توصل إلى بنت جبيل بسبب القصف والغارات.استحقّت المدينة اسم بنت جبيل-غراد، دمّر القصف الإسرائيلي بيوتها وترامت حجارتها الصخرية مع الشرفات والدرابزين وخزانات المياه وسط الطريق العام، هنا كان سوق الخميس ومُحي، صار مسرحاً لحطام السيارات وجرارات الدكاكين المخلعة، مرعبةً كانت بنت جبيل في 31 تموز 2006.
وكمشهد من فيلم حربي ينسلّ أناس من بين الحطام ومن تحته، يخرجون من أقبيتهم التي ملّتهم طوال 18 يوماً، هنا عجوز يتكئ على عصاه وهناك عجوزة تفتش عن قطرة ماء وقد تشقّقت شفتاها من الجفاف، كأنهما يصعدان من تحت الأرض بعد موت استمرّ لأيام تحت رحمة طائرات العدو ومدفعيته الثقيلة. ما همّ بنت جبيل من القصف والدمار، المهم أن جنود النخبة لم يدخلوها لأن رجال نخبة آخرين عرفوا كيف يدافعون عن المدينة وحرموا العدو من فرصة التقاط ولو صورة واحدة في ملعب بنت جبيل الذي استحال لعنة تلبّست قادة العدو منذ نسج السيد حسن نصرالله للصهاينة عقدة «أوهن من بيت العنكبوت»، فعاملها الإسرائيليون كما عامل النازيون ستالينغراد.

من مارون إلى بنت جبيل
جهد الصحافيون الواصلون إلى مدينة الحطام في مساعدة العجزة للوصول إلى سيارات الإسعاف الواقفة على أطراف المدينة بسبب الركام، إلى أن ظهرت طفلة تجرّ والدتها من طرف عباءتها وتسرع الخطى وخلفها إخوتها الثلاثة، إنها زينب فارس (8 سنوات)، تتجاوز الركام والقفز فوق الدبش. يستوقفك المشهد، هل يعقل أن تكون هذه الطفلة قد عاينت كل هذا الدمار ووقعت في أذنيها أصوات كل تلك الانفجارات؟ نقترب من زينب فتتهيّب، نستصرح والدتها فنعرف أنها وصلت مع أطفالها للتوّ من مارون الراس مشياً على الأقدام، ترمقنا زينب بنظرة غضب وتشد عباءة والدتها «هلأ بتمشي الأمبيلانسات (سيارات الإسعاف) وبيتركونا هون»، وتمضي زينب وعائلتها قبل أن تتوقف الوالدة أمام براد دكان محطم لأخذ قنينتَي ماء وكيس حليب لأولادها وتوصيهم «ذكروني أتسامح من أبو حسين بحق الأغراض».
اليوم وبعد ستة عشر تموزاً كبرت زينب، وهي تدرس الاقتصاد بعدما درست المحاسبة، تعيش في مارون الراس وكأنّ حرباً لم تدر هناك، نلقاها بعد جولة بحث غير مضنية. زينب كبرت ولبست التشادور، زرناها في بيتها نسألها عن ذاك التموز فتقول: «أتذكرها كأنها كانت لعبة، كنا نفتش عن شيء جديد وكنا نهرب من أهلنا إلى الحمام ونتسلّق مع بنات عمي إلى الشباك لنرى الدبابة الإسرائيلية تقصف وترجع إلى الوراء، ثم تتقدّم دبابة ثانية وتوجه مدفعها إلى بنت جبيل وتقصفها». نواجهها بصورتها التي انتشرت في الصحافة العالمية، تحدّق في شاشة الهاتف، كأنها مفبركة، فذاكرتها لم تلتقط تلك اللحظة، كأنها لم تعشها قط. «يا عمي هيدي أنا وهيدي أمي، بس مش متذكرتها».

احتجاز المدنيين
تقصّ زينب روايتها لحرب تموز: «كنا في بيتنا عندما بدأ الإسرائيليون الهجوم. انتقلنا إلى بيت عمي لأنه أكثر أمناً، وأقمنا في غرفة أرضية. في يوم، استيقظنا على صوت صراخ فخبّأتنا أمي في خزانة الثياب، وقالت لنا اسكتوا ما حدا يطلع صوت. بعد قليل، دقّ الباب ودخل الإسرائيليون وأخذونا جميعاً إلى تلة وطلبوا منا أن نسبقهم فيما يسيرون خلفنا. كانوا يطلقون النار فوق رؤوسنا. أتذكر أنّي كنت أنتعل فردة واحدة من الحذاء، فحملتني أمي على ظهرها حتى وصلنا إلى بيت وضعونا فيه وأقفلوا علينا وتمركزوا معنا في البيت». يتدخل الوالد يوسف فارس «يعني اتخذوهم دروعاً بشرية للاحتماء بهم من هجمات شباب المقاومة».
شاهد الوالد زوجته أمل على قناة CNN وهي تجرّ أطفالهما في شارع بنت جبيل

كان الوالد مسافراً إلى فنزويلا في ذلك الوقت، وانقطعت عنه أخبار عائلته نهائياً، إلى أن شاهد بالصدفة على قناة CNN زوجته أمل وهي تجرّ أطفالهما في شارع بنت جبيل الرئيسي واستمع إلى تصريحها الذي أدلت به لنا. «هنا اطمأن قلبي إلى أنّهم كلّهم على قيد الحياة». الوالدة أمل كان كل همّها أن تهرب بأولادها بعيداً عن الإسرائيليين «في الطريق، مشياً من مارون إلى بنت جبيل مررنا بكرم عنب، قطفت عدة عناقيد خوفاً من عدم وجود طعام في بنت جبيل، وفي دكاكين المدينة المدمّرة جمعت كيساً من الحليب وبعض المعلبات لتوفير وجبات الأكل». تؤكد الأم أنها عادت بعد الحرب واستسمحت أصحاب الدكاكين.

هدنة الـ48 ساعة
في ذلك المنزل الذي احتُجزوا فيه، أطلق جنود العدو النار على عمة زينب فأصابوها بكتفها وصار المحتجزون يصرخون طلباً للمساعدة الطبية، لكنّ مارون محاصرة، فخاف الصهاينة ونقلوا الدروع البشرية إلى طرف يارون كونه أكثر أمناً لهم. هناك هامَ المحتجزون على وجوههم وانطلقوا في هدنة الـ48 ساعة هرباً من جحيم مارون إلى بنت جبيل ومنها بالإسعاف الى صيدا.
لا تتذكر زينب جزعها وهي تشدّ بيدها طرف ثوب الوالدة كي تسرع الخطى نحو سيارة الإسعاف لنقلها خارج الجحيم. هل نسيت فعلاً أم هي شحنة غضب مؤجّل منذ ستة عشر تموزاً؟ فرسالة زينب البالغة اليوم تقول: «لا أتمنى الحرب، ولكن اذا عادت فكلنا مع المقاومة سنمنعهم من دخول مارون الراس». زينب الصبية أصدرت حكمها المبرم «الإسرائيليون لن يبقوا طويلاً هنا، الأرض التي أخذوها سيعيدونها»، انتهى.