يشكِّك دونالد ترامب، كما غيره مِن كائنات بني البشر، بالبيانات والأرقام الرسمية الصينية الخاصة بفيروس «كورونا». والشكّ عندَ الشاكّ، سلوكٌ عقلي بديهي. لكن الرئيس الأميركي لا يركن، طبعاً، إلى سلوكه البديهي، بل يسعى، منذ بدء تفشّي الوباء خارج إقليم خوباي، إلى إلقاء المسؤوليّة على الدولة التي «صدّرت» الوباء، اعتقاداً منه بأن العثور على «كبش فداء» سيحدّ من انتقادات كثيرة تطاول طريقة تعاطيه مع الأزمة الوبائية، وتؤثّر، بصورة أكبر، في احتمال خسارته لقب الرئيس لدورةٍ ثانية. اشتغاله على تكريس مفهوم «الفيروس الصيني» لم يلقَ رواجاً، إلا ضمن فريقه الضيّق مِن الموالين، وأوّلهم وزيره المخلِص مايك بومبيو. على أيّ حال، تجاوز ترامب الشكّ إلى اليقين بأن الصين «تكذب»، وأن هناك مَن عاونها. واعتبر أن في إمكانه «محاسبتها». محاسبةٌ ستجرى هذه المرّة عبر أداة ليست إلّا... منظمة الصحة العالمية.لا يستطيع ترامب التعايش مع فكرة المنظمات (أو الاتفاقات) المتعدّدة الأطراف. باكراً، كرّس الرئيس الأميركي سياسة الانسحابات المتتالية مِن: اتفاق باريس للمناخ، الاتفاق النووي الإيراني، اتفاقات التجارة المتعددة الأطراف (تبعتها حرب جمركية على الصين)... أوقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وانسحب من المجلس العالمي لحقوق الإنسان، وهدد مرات عدة بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية لأنها «تحابي الصين على حساب الولايات المتحدة»، وأخيراً قرّر تعليق مساهمة بلاده المالية في منظمة الصحة العالمية، ما أثار موجة تنديد دوليّة. قرارٌ، إذا استطعنا تجاوز توقيته السيئ وبعض تبعاته، مِن شأنه أن يحرِّر المنظمة من التبعية لأكبر مساهمٍ في تمويلها. إذ تشكِّل حالة التمويل، في حدّ ذاتها، إحدى العقبات الرئيسية التي تحول دون استقلالية المنظمة التي يستند تمويلها إلى «الاشتراكات المقدّرة» مِن الدول الأعضاء، والمخصّصة لاستمرار الوظائف الأساسية فيها أولاً، والمساهمات الطوعية مِن الجهات المانحة ثانياً. على هذه الخلفية، تقترح إيزابيلّا كامينسكا في تقرير لصحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية، إنشاء «نظام جديد» غير مسيّس، يركّز على الحياد والخصوصية، من أجل طمأنة المواطنين الذين يخشون مِن انتشار معلومات تؤثّر على خصوصيتهم، والحكومات التي لا تثق في تأثير الجهات المانحة الخاصة وغيرها من المساهمين الكبار.
بلغت مساهمة أميركا في موازنة المنظمة في 2018 ــــ 2019 أكثر من 800 مليون دولار


قرار ترامب تجميد تمويل المنظمة إلى حين مراجعة دورها «في سوء الإدارة وإخفاء معلومات حول تفشّي فيروس كورونا»، جاء متسرّعاً ومفاجئاً وخطيراً، كما خلصت غالبية الدول التي علّقت على خطوته الأخيرة. مراجعةٌ سيتقرّر على ضوء نتائجها انسحاب الولايات المتحدة من عدمه. وفي لائحة اتهامية طويلة، اعتبر الرئيس الأميركي أن «العالم تلقّى الكثير من المعلومات الخاطئة حول انتقال العدوى والوفيات» الناجمة عن وباء «كوفيد-19».
وبصفتها أكبر مانح على الإطلاق للمنظمة التي توضع موازنتها كل عامين، بلغت مساهمة الولايات المتحدة في موازنة 2018 ــــ 2019، أكثر من 800 مليون دولار، تليها مؤسسة «بيل وميليندا غايتس» الخيرية التي دفعت 229 مليون دولار في 2018 ثم بريطانيا. ولأن الإعلان الأميركي جاء سريعاً وغير مفصّل، لم يتضح ما إذا كانت واشنطن ستجمِّد مساهماتها الطوعية أم اشتراكاتها المقدّرة، أم الاثنتين معاً، ولا سيما أن موازنة المنظمة لعامَي 2020 ــــ 2021 تبلغ 4.85 مليارات دولار، أي بزيادة 9% عن الموازنة السابقة. كذلك، ليس واضحاً ما إذا كانت واشنطن قد سدّدت بالفعل نصيبها كاملاً مِن هذه الموازنة، علماً بأنها تدفع، في العادة، اشتراكاتها المقدّرة في وقت متأخر مِن العام. ومع تعليق المساهمة المالية، في ظلّ تفشّي الجائحة، أبدى ترامب «مخاوف عميقة» حيال ما إذا كان «كرم أميركا» قد استُخدم على أفضل نحو ممكن. وهذه ليست أوّل مرّة يهاجم فيها الرئيس الأميركي المنظّمة الأممية التي يتّهمها بالانحياز لبكين والتواطؤ معها في عدم الإبلاغ بشفافية عن الكارثة الصحية التي امتدّت مِن مدينة ووهان في وسط الصين، إلى العالم. ووفقاً للرئيس، فإن تأخّر الصين في الكشف عن الوباء ونطاقه ومدى فتكه بالبشر كلّف سائر دول العالم وقتاً ثميناً كان يمكن خلاله اتّخاذ إجراءات لوأد الفيروس في مهده، وإنقاذ آلاف الأرواح، فضلاً عن منع وقوع أضرار اقتصادية عالمية. وعليه، رأى أن «من واجب» الولايات المتحدة المحاسبة! وعلى ذكر المحاسبة، هناك مقترح في الكونغرس يجري التداول به، ينصّ على السماح لضحايا «كوفيد-19» في الولايات المتحدة برفع دعاوى قضائية ضدّ الحزب الشيوعي الصيني في المحاكم الأميركية، على غرار تلك التي رفعها أهالي ضحايا 11 أيلول، على خلفية الأضرار التي لحقت بهم. وفي معرض ردّه على المقترح، شدّد بومبيو على أنه سيتم التدقيق في سجلات جميع الدول، و«بالنسبة إلى مَن يتحملون مسؤولية الخسائر في الأرواح والمأساة التي وقعت هنا في الولايات المتحدة والأضرار الاقتصادية التي تحمّلها العام بأسره، فأنا واثق مِن أن هذه الإدارة ستمهِّد الطريق لمحاسبة الدول والأفراد المسؤولين عن ذلك».



تنديد دولي بالقرار الأميركي
لاقى قرار الرئيس الأميركي تجميد تمويل منظمة الصحة العالمية تنديداً دولياً، لكونه وجّه ضربة للجهود العالمية لرص الصفوف في مواجهة الوباء.
المنظمة الدولية، على لسان مديرها تيدروس أدهانوم غيبريسوس، قالت بداية إنه «لا وقت نضيّعه. الشاغل الوحيد لمنظمة الصحة العالمية مساعدة كل الشعوب لإنقاذ الأرواح ووضع حدّ لتفشي فيروس كورونا». وفي مؤتمر صحافي عُقد لاحقاً عبر الفيديو، قال غيبريسوس إن المنظمة «في طور درس تأثير» القرار الاميركي، مشيراً إلى أنها «ستعمل مع شركائها لسدّ أي عجز مالي... ولضمان استمرار عملنا»، فيما أكّد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أن «الوقت ليس مناسباً لتقليص تمويل عمليات منظمة الصحة العالمية التي يجب أن تلقى دعماً لأنها أساسية لجهود العالم من أجل كسب الحرب ضد كوفيد-19».
وفي حين اعتبر الملياردير الأميركي بيل غيتس، بصفته مساهماً كبيرا في المنظمة، أن وقف التمويل «خطير جداً»، حذّرت بكين من أن القرار «سيقوّض التعاون الدولي في لحظات حرجة» مِن الوباء. وفي موسكو، اعتبر نائب وزير الخارجية، سيرغي ريابكوف، أن إعلان واشنطن «يثير قلقاً كبيراً ويعكس المقاربة الأنانية جداً للسلطات الأميركية في مواجهة ما يحصل في العالم». وشبّه وزير الخارجية الايراني، محمد جواد ظريف، تجميد التمويل بحملة «الضغوط القصوى» التي تمارسها واشنطن في حقّ بلاده بعد انسحاب ترامب في شكل أحادي من الاتفاق الدولي حول البرنامج النووي الإيراني. وكتب في تغريدة: «التعليق المخزي لتمويل منظمة الصحة العالمية وسط جائحة سيظلّ عاراً»، بينما اعتبر وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن لا سبب يبرّر قراراً من هذا النوع.


ربع الإصابات العالمية... أميركية
بحلول مساء يوم أمس، تجاوز العدد الإجمالي لضحايا فيروس «كورونا» 130 ألف وفاة، أكثر من ثلثيها في أوروبا. وفي المجموع، بلغ عدد إصابات الوباء ما يزيد على مليونَي إصابة، 623 ألفاً منها في الولايات المتحدة وحدها، حيث وصل عدد الوفيات إلى حوالى 28 ألفاً، بعد تسجيل أكثر من 1,500 وفاة جديدة، تليها إيطاليا (21645 وفاة)، وإسبانيا (18579)، ثم فرنسا (17167).