مع رحيل المثقفين العرب الذين ينتمون إلى القرن العشرين، نفتقد إلى مرحلة حيوية في المشهد العربي، إذ كانوا لا يقدمون فقط أعمالاً فنية وثقافية، بل كانوا أيضاً روّاداً في طرح الأسئلة الحيوية حول الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي العربي. ترتسم أمامنا اليوم تساؤلات ملحّة حول ما إذا كان هناك بديل لهؤلاء المثقفين والفنانين. هل استمرت إسهاماتهم الثقافية ومشاريعهم الفكرية بعد رحيلهم، أم أن وفاتهم أنهت حالةً (وحقبة) كانت تحمل عبء الأسئلة المهمة والمشحونة بالمعاني الاجتماعية والسياسية والثقافية. مع انسحاب وليد شميط (مواليد عاليه عام 1942 ــــ 2024) سنفتقد إرثاً ثقافياً ومشروعاً فكرياً هاماً، يضعنا أمام تساؤلات مهمة حول واقعنا الثقافي ومشروعنا الفكري في الوقت الحاضر. رحيله يثير تساؤلات حول استمرارية التفكير النقدي والإبداع في عالمنا المعاصر، ويجعلنا نتساءل عن مستقبل المشهد الثقافي العربي في غياب شخصيات مثله.
آمن أنّ النقد مشروع فكري يكمل حركة الإبداع والفن

وليد شميط مثقف عربي ناقد وصحافي سينمائي لبناني أثرى المكتبة العربية السينمائية بالكثير من الكتب والمقالات والبرامج عن السينما العربية قبل أن ينطفئ في أحد مستشفيات باريس قبل أيام، على أن ينقل جثمانه غداً السبت إلى لبنان. بدأت علاقة وليد شميط في السينما أثناء وجوده في مغتربه البرازيل وتعرّفه إلى ناد سينمائي، وقع من خلاله في حبّ السينما، إذ تعرّف في عتمته إلى عوالم السينما الإيطالية. يصف تلك المرحلة في حياته في إحدى المقابلات التلفزيونية بشغف يذكّرنا بالطفل المأخوذ بسحر الفنّ السابع في فيلم «سينما باراديزو» (1988) الشهير للمخرج الإيطالي جوزيبي تورناتوري. حالة سحرية جميلة ترتبط بسؤال الذات، لكنّ شميط بلورها في مشروع فكري وثقافي، قام على تأسيس نواد سينمائية عدّة في لبنان وفرنسا لإيمانه بدور نوادي السينما كحالة ثقافية. ومن هذه النوادي، نذكر: «النادي السينمائي العربي» في باريس الذي أسّسه كـ «ردّة فعل» على النوادي التي تناقش الأفلام باللغة على حد تعبيره، فكان هذا النادي الأول الذي يناقش الأفلام باللغة العربية.
هذا الهمّ كان مسيطراً على مثقفي تلك الفترة مع ظهور أسئلة الهوية والقومية العربية وصعود اليسار ونقاش قيام الدول في مرحلة ما بعد الاستعمار. لذلك كان شميط من الذين أثبتوا أن النقد مشروع فكري بحدّ ذاته يكمل حركة الإبداع والفن، ويلعب دوراً مختلفاً تكاملياً معه. فقد كتب الكثير من المقالات التي تناقش صور لبنان في الحرب عبر الإنتاج السينمائي في تلك الفترة، كما ساءل معايير وظاهرة السينما البديلة العربية، ومواضيعها وجماليّاتها وانفصالها عن المؤسسات الحكومية والسينما التقليدية، وربط هذه الظاهرة بالواقع الاجتماعي والسياسي في العالم العربي. وبذلك، كان يقدم نقداً لواقع معاصر ووجهة نظر في تحولات ومتغيرات المنطقة عبر نقد السينما.
انطلاقاً من سؤاله القومي والفكري، أصدر كتاباً بالشراكة مع الناقد الفرنسي غي هينيل «فلسطين في السينما» (1978) الذي يطرح سؤالاً مهماً في تلك الفترة: هل السينما الفلسطينية موجودة؟ وما هي؟ وفي محاولة للإجابة، يدخل الكتاب في أساسيات أنماط التفكير النقدي الصحافي الذي يربط صورة فلسطين في السينما خلال مرحلة صعبة مليئة بالتساؤلات والتحولات، ويطرح أهمية الوثيقة البصرية في الصراع، أولاً لتوثيق تاريخ يعمل الاحتلال الإسرائيلي على محوه الممنهج بكل الطرق، وثانياً لاستمرار النضال بشكله الأهم، وهو النضال الثقافي، فقدم في الكتاب وثيقةً مصاغةً بلغة مرحلة الصراع، حيث أهميتها ليست آنية فقط، بل تُعيد طرح ذاتها مع المعركة الحاصلة في غزة اليوم، عن أشكال النضال واستمراريته، وآليات التوثيق على صعيد بناء الحكاية وصياغة الجمال، وضرورة المحافظة على السردية الفلسطينية كجزء لا يتجزأ من القضية الإنسانية ككل.


من انشغاله بالسينما البديلة، أصدر كتابه «يوسف شاهين ـ حياة للسينما» (2001) الذي تناول فيه خصوصية سينما شاهين الجديدة، ومتابعة سؤاله الفكري والجمالي والذاتي كأحد أهم روّاد السينما البديلة في مصر والعالم العربي آنذاك، مناقشاً معايير سينما شاهين الجمالية والسردية، وعنصر التجديد الذي خرج فيه عن السينما التقليدية، وكيف كانت أفلامه أداة تعبير عن صراع الذات والآخر والمجتمع. كما رصد رؤية شاهين إلى العالم التي اتّصفت بالهدوء والوضوح في بدايتها وذهبت إلى «العصبيّة» تعبيراً عن تعقيد هموم المخرج ورؤيته للذات والفرد والسياق الاجتماعي والسياسي.
قدم وليد شميط برامج تلفزيونية عن تاريخ السينما اللبنانية والمصرية على تلفزيون لبنان، مستضيفاً الكثير من السينمائيين والنقّاد، ومُعرّفاً الجمهور إلى إرثنا السينمائي مع حصوله على وثائق مهمة يجب على الناس معرفتها كجزء لا يتجزأ من تاريخ المنطقة التي تشكّل حاضرها، ويجب على السينمائيين معرفتها كجزء لا يتجزأ من سياقهم الفني وسؤالهم المعاصر، متمنّياً في إحدى المقابلات الجديدة أن يكون أرشيف البرنامج مُحافظاً عليه في أرشيف تلفزيون لبنان.
لم تقتصر صورة وليد شميط على النقد السينمائي فقط، بل انخرط في السلك السياسي عبر عمله كمستشار إعلامي للأمين العام لجامعة الدول العربية أثناء عهد التونسي الشاذلي القليبي. أصدر كتابه «إمبراطورية المحافظين الجدد ــــ التضليل الإعلامي وحرب العراق» (2007) على إثر الغزو الأميركي للعراق الذي تناول فيه صورة الإعلام المعاصر ودوره في الحرب، لكنّه دائماً ما كان مخلصاً وميالاً إلى السينما.
طرح كتابه «فلسطين في السينما» أهمية الوثيقة البصرية في الصراع


سؤال شميط حول السينما البديلة، ومعاييرها الجمالية، وعلاقتها بالواقع واليومي وهموم الإنسان، يبقى موضوعاً محورياً يجب أن نطرحه، ويجب أن نبحث بجدية في تحديات المشهد الثقافي العربي المعاصر وتغيّراته، كما يجب إعادة التفكير في القضايا المهمة مثل استمرارية النضال الثقافي وأهمية إعادة صياغة الحكاية العربية، إضافة إلى تجديد النظر في قضية فلسطين وضرورة الحفاظ على سرديتنا كي لا يرحل وليد شميط «من دون أن تلاحظ المدينة» كما قال الصحافي بيار أبي صعب على منصّة X: «يمضون واحداً تلو الآخر من دون أن تلاحظ المدينة، أو تلبس الحداد. هذا يعني أن المدينة لم تعد نفسها، أو أن زمنهم، زمننا، قد سبقهم إلى كتب السيرة التي لن يكتبها أحد، أو لن يقرأها إلا حفنة من المسكونين، الباحثين عن ذهب الوقت».



ممثّل أيضاً
نعت الأمانة العامة لـ «اتحاد الصحافيين والكتاب العرب» في أوروبا الراحل وليد شميط في بيان جاء فيه: «بكل حزن وأسى، رحل الزميل وليد شميط بعد حياة حافلة بالعطاء الأدبي والثقافي والإعلامي، ونضاله في الدفاع عن الحرية وحق الإنسان في حياة كريمة. لقد خسرنا برحيله قامة ثقافية كبرى لا تعوّض، تمتاز بالنبل والقيم العربية الأصيلة، وعضو الشرف في الاتحاد الذي أسهم في الكثير من الأنشطة». حين عاد وليد شميط إلى لبنان من مغتربه البرازيلي، عمل مع عدد من المخرجين وفي الكتابة النقدية السينمائية، ثم انتقل إلى تلفزيون لبنان حيث قدم برنامجي «تاريخ السينما في لبنان» و«تاريخ السينما في مصر»، ما جعله ينسج صداقات مع عدد كبير من السينمائيين اللبنانيين والمصريين الذين كانوا من مؤسسي الفن السابع في تلك الحقبة. في بداياته، مثّل أيضاً في عدد من الأفلام، منها «سيّد تقدّمي» للمخرج السوري نبيل الملاح، وفيلم «عارضة الأزياء» للتونسي صادق بن عايشة، و«الرأس» للمخرج العراقي فيصل الياسري. كما عمل شميط مساعد مخرج ومديراً للإنتاج في عدد من الأفلام اللبنانية والعربية والأجنبية بين أواخر الستينيات وأواخر السبعينيات.