العنصرية الممارسة ضد العمّال الأجانب في لبنان، مهما اختلفت جنسياتهم باتت من المواضيع المعروفة والمتكررة، وخصوصاً في الوثائقيات. بناءً على هذا الواقع، ينطلق وسام شرف لإخبار قصة حبّ صعبة وشبه مستحيلة بين عاملين أجنبيين في لبنان، لكن بطريقة مختلفة سواء من الناحية السينمائية أو من الناحية الروائية. مهدية عاملة إثيوبية تعمل لدى ثنائي لبناني وتعتني بالرجل المسن الذي يعاني اضطرابات نفسية وتساعده في يومياته، إضافة إلى تولّيها الأعمال المنزلية. تربطها قصة حبّ بأحمد، لاجئ سوري، يجوب الشوارع نهاراً منادياً «حديد، نحاس، بطاريات» بحثاً عن بعض المعادن التي يبيعها ويعتاش منها بعدما استحال عليه إيجاد نوع آخر من العمل. الواقع الاجتماعي أرض خصبة جداً لاستقاء القصص وبناء السيناريوات. مشاهدات شرف اليومية في بيروت منذ بداية الحرب في سوريا، شكّلت فكرة أولية لإنجاز مشروعه، بعدما كان يرى اللاجئين السوريين يصلون إلى لبنان، وليس في حيازتهم غير الملابس التي يرتدونها. يقول شرف في حديث معه: «كانوا يجوبون الشوارع محمَّلين، ولا أمل في عيونهم كأنها منطفئة، كأنهم فقدوا إنسانيتهم. رأيت نوعاً من اللعنة وجاءتني صورة أطلس الذي يحمل الكرة. تماماً مثله، هم يحملون الحديد ومعه هموم الأرض. في موازاة ذلك، تمسك العاملة الإثيوبية بيدي المرأة أو الرجل المسن في الشارع. هي اللعنة نفسها. من هنا بدأت الرواية وانتهت بإخبار قصة حب». يستند شرف إلى معاناة موثّقة يعيشها أي شخصين في وضع مهدية وأحمد في الواقع اللبناني، ليبتعد الفيلم شيئاً فشيئاً عن هذه الواقعيّة المفروضة ويُدخلنا في عالمه الخاص المتخيّل. جسم أحمد الذي ما زال يحمل معادن من آثار إصابة يمرّ بتحولات غريبة. إبراهيم (يؤدي دوره رفعت طربيه) يتحول ليلاً إلى شخصية مصاص دماء يخيف الفتيات في المنزل متأثراً بفيلم «نوسفيراتو» الذي يشاهده نهاراً. حتى ديكور المكان البائس الذي يلتقي فيه الحبيبان، فيه شيء من الشاعرية مع الخضار والضوء اللذين يحيطان به. خيارات الألوان والإضاءة أيضاً من العناصر التي تزيد الفيلم شاعرية وتدخلنا في مناخه الخاص. لم يتعلم شرف الإخراج من أحد المعاهد، بل من الأفلام والمشاهدات. لذا يقرّ بأنه يفكر في الكثير من المخرجين المحببين على قلبه عندما يصوّر عملاً ما. «أحبّ كثيراً فاسبيندر، إضافة إلى المخرج النمسوي أولريش سايدل وطريقة تناولهما موضوع الحب وكذلك أجواء أفلام آكي كوريسماكي التي رافقتني في عملي هذا». يتناول شرف القصة إذاً من منظار مختلف. فكان بإمكانه تصوير وثائقي عن معاناة العاملات الأجنبيات في لبنان وتعرّضهن للتعذيب، أو عن استحالة عيش حياة طبيعية بالنسبة إلى العمّال السوريين اللاجئين. لكن لم تكن تلك فكرته. ما لم يرده شرف خصوصاً هو إخبار قصة تبكي الناس. من السهل فعل ذلك والقصص المحزنة والكئيبة لا تُحصى. يتابع المُشاهد هنا قصة حب كلاسيكية، بين شخصين ممنوع عليهما أن يتبادلا الحب أو حتى أن يلتقيا، لكن في قالب كوميدي ساخر في بعض الأحيان من دون أن يكون متساهلاً مع كمّ العذاب والظلم الذي تشعر به الشخصيتان الرئيسيتان. منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها الكتابة، كانت رغبة المخرج في «اصطحاب المُشاهد إلى مكان آخر. يحتل الوضع الاقتصادي والاجتماعي ناحية صغيرة من الفيلم. الفكرة هي قصة حب كلاسيكية أحببت أن أستخدمها بهذه الطريقة. أردت أن أرفع القصة إلى الأعلى وأعيد الاعتبار إلى الإنسان. كان هذا هدف الفيلم على كل المستويات، سواء لناحية الضوء أو الصورة أو الحوارات. في الوثائقي لا يمكن مثلاً تصوير شخص يتحوّل إلى حديد. هناك فكرة الحرب التي تلوِّث ولو لم يخضها المرء شخصياً. تعرّضت مثل أحمد لإصابة في الحرب اللبنانية، وما زالت هناك شظايا في جسمي. أتحدث هنا عن مرض الحرب إجمالاً. هناك نوع من اللعنة. لا يوجد ناس في الشوارع في الفيلم. كل ما نراه هما شخصان يحاولان عيش قصة حب في خلفية لا تتقبل هذه الفكرة. هناك القليل من الأمل الذي يتجلّى في بعض الأماكن، كما في شخصية إبراهيم الذي يمثّل الشعب اللبناني بعض الشيء. هو شخص طيّب لكنه في النهاية جُنّ وتحوّل إلى مصاص دماء يتهجّم على الفتيات. أحمد يتحوّل إلى حديد. نرى أيضاً في الفيلم شخصين يحاولان الهروب والحب». هناك أمور عدة عاشها المخرج فعلاً ورآها بفضل عمله كصحافي صوّر تقارير كثيرة عن اللاجئين. لذا اتخذ قراراً بالحديث عن أشياء اختبرها أو رآها من دون الحاجة إلى اختلاق شيء، كاللجوء إلى بيع الأعضاء من أجل الحصول على المال كما في الفيلم. صحيح أن قصة أحمد ومهدية تحدث في إطار مجتمعي محدد، لكنها تتخطى الخاص لتكون كونية. ثم إن فكرة المساعدة موجودة بشكل خاص في العمل. يشرح شرف: «أردت أن أصوّر شخصين يساعد أحدهما الآخر. أهم ما في الأمر هنا هي فكرة المساعدة. في أول الفيلم كلاهما يحمل شيئاً. ثم عندما تتعرض هي لإصابة في قدمها يحملها ويساعدها. وعندما تبدأ التحولات في ذراعه، هي التي تساعده. في نظري، هذا دليل على مستوى الحضارة وهكذا تُقاس. الحضارة تظهر لدى الشعوب والدول والأشخاص الذين يعتنون بمن لا يتمتعون بالقوة نفسها، وليس الشعوب التي تقتل الضعيف كما يحصل في غزة. الحضارة يمكن العثور عليها في أماكن لا يمكن تصورها».
مشاهداته اليومية في بيروت منذ بداية الحرب في سوريا، شكّلت فكرة أولية لإنجاز مشروعه


مهدية وأحمد يعيش كلاهما في ما يشبه السجن. نظام الكفالة الذي يمنع على مهدية التحرك بحرية أو الاحتفاظ بجواز سفرها كأنها ملك لصاحب المكتب الذي أتت عبره. كما أن جسم أحمد نوع من السجن الذي يجد صعوبة في التخلص منه. الحرية الوحيدة التي يعرفانها، ولو لوقت محدد، هو المكان الذي يبحثان عنه دوماً في الفيلم ليلتقيا. يقول شرف في هذا الصدد: «المهرب الوحيد هو الحب أو إيجاد مكان للحب. ديناميكية الفيلم هي في تمكّنهما من إيجاد مكان لعيش هذا الحب. يخرجان من المنزل ويذهبان إلى فندق يستقبلهما لليلة واحدة فقط. أما في المخيّم، فالأم تعامل مهدية على أنها خادمة. حتى في المجتمع الإثيوبي، هما مرفوضان. أحببت أن أتلاعب بالقواعد الاجتماعية في ما يتعلق بمفهوم العنصرية. نحن في بلد لا أحد يحبّ فيه الآخر. وكل شخص هو عبد الآخر. مهدية هي عبدة السيدة وتصبح عبدة اللاجئة التي هي عبدة اللبنانيين. والموظفة في الفندق هي بدورها عبدة المدير الأجنبي. هناك نقد لاذع ولكن غير مباشر». لم تكن في نية شرف إظهار عنصرية اللبنانيين تحديداً بما أنّها لصيقة بالإنسان عموماً. يطال النقد المنظمات غير الحكومية التي تدخل المخيّمات وتلقي الخطابات في حين أن الناس هناك يموتون من الجوع، ووسائل الإعلام التي تريد سرد ونقل قصص موجعة مستندة إلى معاناة الأشخاص. في أحد مشاهد الفيلم، نرى أحمد يترجم إلى الإنكليزية كلام مهدية إلى صحافية أرادت إجراء مقابلة معها، متعمّداً نقل الأجوبة بطريقة خاطئة لتتلاءم مع ما تريد أن تسمعه المرأة. لا نرى في المقابل تعذيباً بالضرب أو سوء معاملة جسدية تجاه العاملة الإثيوبية كما قد يفرضه فيلم يتحدث عن هذا الموضوع. فالسيدة التي تعمل لديها (تؤدي دورها دارينا الجندي) ليست قاسية أو مؤذية. هي نموذج لأي لبنانية تستفيد من هذا القانون كي تأتي بمن يساعدها في المنزل من دون أن تكون بالضرورة عنصرية أو متوحشة. فشرف لا يريد أن يظهر أن اللبنانيين يضربون ويؤذون عن قصد. في المقابل، لن تظهر مهدية وأحمد سلوكاً مثالياً طوال الوقت: يعلّق شرف: «علينا دائماً إظهار الأمل. أعلم جيداً أن هناك من يسيء معاملة العاملات أكثر. ولكن الجميع بات يعلم ذلك. لسنا مضطرين للذهاب إلى القعر لإفهام الناس. هذه هي الطريقة التي يتعاملون عبرها معهن لأن القانون يقضي بذلك. لا أريد أن أظهر أنّ اللبنانيين أشرار. هي عادة سيئة ورثناها في التعامل معهن. كما أنني لم أرد أن أدخل في هذا الجدل الذي يلوّث مناخ الفيلم، ولا أن أجعل منه فيلماً اجتماعياً. هناك من يُجيد ذلك أكثر مني».
يؤدي كل الممثلين أدوارهم بدقة وصدق. لا نرى علامات البؤس أو الكآبة على وجهَي الممثلين الرئيسيين، بل الكرامة على حد قول المخرج. البحث عن مؤدية شخصية مهدية كانت رحلة صعبة وشائكة أوصلت المخرج في نهاية المطاف إلى إثيوبية عاشت في فرنسا منذ صغرها بعد تبنّيها. كان العثور على امرأة من الجنسية الإثيوبية قادرة على تأدية الدور في بيروت مستحيلاً، وخصوصاً أنّ شروط الإنتاج فرضت أن يكون معظم التصوير في كورسيكا، باستثناء بعض المشاهد الخارجية. كما كانت جائحة كورونا في أوجها آنذاك. خاضت كلارا كوتوريه تجربة تمثيلية واحدة في فيلم قصير قبل اختيارها لأداء الدور الرئيسي في «حديد، نحاس، بطاريات». أداؤها حيادي وغير منفعل، وهذا ما بحث عنه شرف. اضطرت لمتابعة دروس خاصة مع مدرب لتتمكن من أداء النص معتمدة على حفظ الأصوات باللهجة اللبنانية من دون أن تدرك المعنى في البدء. أما زياد جلاد، فسبق أن ظهر في بضعة أفلام، ويتمتع وفقاً للمخرج «بالشكل والخصائص التي أريدها. وكان سهلاً أن يؤدي اللهجة السورية بما أنه من أصول مصرية لبنانية. لكن فرق الطول والحجم كان بارزاً بينهما، لذا كان على مهدية أن ترتدي كعباً عالياً جداً طوال التصوير. بذلت جهوداً جبارة على كل الأصعدة وهي الآن مرشحة لجائزة «سيزار». قصدت أن أختار ممثلين يتمتعان بالجمال لأبيّن أن اللاجئ والعامل ليس شخصاً كئيباً أو بشعاً». لدى كتابة السيناريو، كان المخرج يرغب في استخدام مشاهد من أحد الأفلام التي يؤدي فيها الممثل الأميركي بيلا لوغوزي الذي يكنّ له الإعجاب. ولكن لضيق الميزانية وعدم إمكانية استخدام تلك المشاهد من دون دفع ثمن عالٍ، جاء خيار بث مقطع من «نوسفيراتو»، فبرز الممثل رفعت طربيه خياراً مثالياً لأداء دور شبيه بمصّاص الدماء. أعجبته الفكرة كما أنّ أداءه المسرحي كان ملائماً لدور هذا الشخص الذي يؤذي من حوله لكن عن غير قصد.

«حديد، نحاس، بطاريات»
في الصالات اللبنانية