تنطلق المخرجة المصرية منال خالد من مصطلح شفهي هو «حمام سخن»، (عبارة تعني «الخبطة» أو الصفعة، أي الصدمة التي تخلّفها الخبطة وراءها وما تفتحه لاحقاً من معاناة) لتصوّر فيلمها الجديد الذي يحمل عنواناً مستمداً من هذه العبارة «حمام سخن» (77 دقيقة ـــ 2021 ـــ بطولة كارولين خليل وأسامة أبو العطا ـــ سيناريو وحوار رشا عزب ومنال خالد) ويحمل معناها أيضاً. إسقاط لغوي قامت به المخرجة على أرض الواقع. الواقع الذي يؤكد أن ثورة اندلعت في مصر لكنها لم تلبث أن انزلقت وابتعدت عن مسارها، ليتشوّه معناها وتتغيّر حرارتها. تعود منال خالد إلى الجذر، إلى الأساس، أي إلى الأرض وفضاءاتها، الشفهية منها والملموسة، ويكون فيلمها الأخير مستوحى من ساحات الثوّرة والأحداث التي جرت هنالك مع نساء مصريات، موضوع فيلمها الأساسي والعنصر الأكثر تغييباً في الثورة المصرية.أثناء عرض فيلمها ضمن فعاليات «مهرجان كرامة لأفلام حقوق الإنسان» الذي أُقيم في بيروت الشهر الماضي، اختصرت المخرجة بأنّه «ليس إلا تعبيراً عن ذاتي». وفقاً لما تُمليه «سينما المؤلف»، لا تعمل السينمائية المصرية على إشباع الذوق العام والتماشي مع حساسيته، بل تعتبر الفن السابع مختبراً ذاتياً يعكس مقاربتها الخاصة.
اختارت منال خالد الثورة المليونية المصرية كموضوع لأحداث فيلمها الروائي الطويل ومصير تعيس لخمس نساء شاركن فيها، وتعرّضن لشتّى أنواع المعاناة بعدما رأين في الثورة خلاصاً. تسع سنوات (من ٢٠١١ حتى ٢٠٢٠) هي المدّة التي استغرقتها لإنجاز الفيلم. الوقت كان كافياً لتجميع مشاهد الثورة المصرية من ميدان التحرير وخلق الأحداث من جديد، بطريقة تلائم ما اختبرته منال خالد في ذلك الوقت، بلقطات تسجيلية أو شبه تسجيلية للأحداث حيث تظهر الجموع المليونية الثائرة، لكن هذه المشاهد ليست احتفاء بالانتصار ولا للتذكير بقوّة الحشد.
تصرّح المخرجة أمام الحضور في بيروت «المسؤولة عن مونتاج الفيلم هي الآن معتقلة في السجون المصرية». من الواضح التزام المخرجة وفريق العمل بنهج الثورة، وفي «حمام سخن» أوّل فيلم طويل لها، اتخذت الزاوية الأهمّ لتاريخ الثورة أي زاوية الوجود النسائي.
في الفيلم، لا نرى ميدان التحرير. نسمع عنه وعن أحداث الثورة من خلال كلام النساء كشخصيات أساسية فيه. ما نراه فعلاً هو بعيد أقصى البعد عن «كليشيه» الثورة. ندخل إلى ما لم تصوّره العدسات الصحافية. ندخل إلى البيوت، المباني والأزقة المتواضعة والفقيرة، لتصبح بذلك كاميرا منال خالد، وسيلةً لإظهار ما حصل في شوارع مصر الضيقة. تبدو مقاربتها غير مألوفة، فببساطة، من كان لينتبه لتلك الأحياء وما جرى فيها؟
منال خالد لا تتبنّى الكلاسيكية، بل تُبدع في اللجوء إلى الرمزية وتراهن على الدلالات


يحكي التاريخ أنه خلال الثورة الفرنسية، دمّر نابليون بونابارت الأحياء الباريسية البعيدة كخطوة منه لقمع الثورة. تلك الأحياء كانت آنذاك مركز الاجتماعات السياسية ومعقل التخطيط للأعمال الثورية. إذاً، خيار المخرجة للغوص في تلك الأحياء هو بالفعل معالجة غير اعتيادية، لكن ذلك لا يلغي أهميته بتاتاً، إنما العكس، فهو يؤكده. لم تدمّر الأحياء المصرية كالأحياء الباريسية، إنّما الذي دُمر في الثورة المصرية هو النفس البشرية. يُروى أنه في أول أيام الثورة، سجّلت حوادث اغتصاب في الشوارع. بتقنية إيحاءات فنية تبرزها منال خالد في فيلمها: رجال بثياب تعزز «قوتهم» الجسدية، وجاكيت وسجائر، طوال القامة، وواثقو الخطوات، يجوبون الشوارع متسلّحين بهذه الرهبة ويلاحقون النساء بعيداً عن الميدان. 
في تلك الأماكن، وخلال اقتحامنا لها من خلال الكاميرا، لا نشعر بالأدرينالين بسبب التلصّص أو الإثارة لحدث مرتقب، ولو أنّ أحداثاً تجري من ملاحقات ليلية، بل ما نحسّه ونحسّ فيه هو شعور الانتظار. هنالك انعكاس للوقت الطويل. المشاهد بطيئة، ثقيلة بوطأتها على الشخصيات وعلى المشاهد. في عتمة الأزقة والبيوت، نتأمل بتمعّن وجوه النساء، بطلات الفيلم. لا يوجد ما نفعله غير ذلك خلال الانتظار الطويل. نتعرّف إلى كل واحدة منهن، نحفظ ملامحهن وحركاتهن. في كنف تلك الأحياء والمباني، نصبح قريبين منهن، ويصبحن قريبات من بعضهن. ساحة الثورة بعيدة بعض الكيلومترات وهنّ عالقات في حالة انتظار. 
 الأولى ـــ وبحسب تسلسل الظهور ـــ  تلجأ إلى متجر لبيع الهواتف الخليوية، بغية الاختباء من الشرطة المصرية في أولى ليالي الثورة. تبقى حتى الفجر في ذلك المكان، ومن ثمّ تغادره في أوّل فرصة آمنة (أو تبدو آمنة) صباحاً. الثانية تعيش في بيت متواضع جدّاً مع ابنتها، تخرج إلى الشارع لتأتي بالأكل ولا تعود. تنتظرها ابنتها في المنزل، لتقابل من وراء الباب المقفل المرأة الثالثة التي لجأت إلى المبنى عينه هرباً من المخابرات المصرية فتعلق بداخله. الرابعة والخامسة تُجبران على المكوث في حمام في أحد الأزقة الضيقة بعد إلقاء القبض عليهما من قبل عناصر المخابرات، لتكتشفا بعد ذلك أن صاحبة الحمام تعمل رغماً عنها مع ابنتها لصالح المخابرات، وهما عاجزتان عن إيقاف هذا التعاون الإكراهي. 


«عالق» (أو عالقة) هي الترجمة الحرفية للعنوان الرسمي للفيلم باللغة الإنكليزية (Trapped). عالقة في المبنى، في الشقة، في المتجر، في الميدان، تختلف الأماكن والحالة واحدة. إنه المأزق، الذي يضع المرء في حالة الصدمة والعجز، أو الحيرة حول كيفية النجاة بعد تلقيه صفعة مدّوية تمكنت منه. لكن بالرغم من استحالة الفرار، لا تُنهي منال خالد قصص شخصياتها، إنما تتعمّد أسر المُشاهد في الحالة، ليتقمّص موقفهن، وثم بطريقةٍ مفاجئة وغير متوقعة، تتخلى عنهنّ وتترك المشاهد غارقاً في مخيّلته. لا نهاية هنا، بل حالة حصار فقط، وانتقال في عرض قصص الشخصيات تباعاً ما هو سوى التعبير عن ذاتها كما قالت، من خلال اتباع أسلوب مراقبة حياة النساء اليومية في ظلّ الثورة المصرية. ولعلّ أكثر المشاهد تميّزاً في الفيلم هو مشهد الحمام نفسه، الحمام السخن. في لهبة ذلك المكان، وسخونة المياه، ينسى المشاهد والشخصيات نفسها الحدث الكبير أي الثورة. كأن النساء العالقات المحتجزات هناك يستسلمن ويقطعن الأمل بإمكانية الفرار. خمس نساء، في حمام سخن، مختلفات في الشكل والمضمون والميول، يجدن أنفسهن في حفلة استحمام «عرائسية». 
ينزعن ثيابهن، وتبقى المناشف البيض على أجسادهن. تتجرد كل واحدة منهن من لباس الشارع، حتى غطاء الرأس، ويستعد جميعهن للاستحمام. حركة سينمائية تُفسَّر كلاسيكياً كمحاولة لتطهير الذات. لكن منال خالد لا تتبنى الكلاسيكية، بل تُبدع في استعمالها الرمزية وتراهن على الدلالات. هكذا بكل بساطة، يتحوّل الحمام إلى استعارة، تدل على الثورة بذاتها، لتظهر الحاجة عند شخصياتها، النساء، إلى الانفصال عن الواقع، أي الهروب أو الفرار خارج جدران الحمام، والاهتمام بأنفسهن. فتتحوّل لغة الفيلم السينمائية هنا بسرعة، من الارتباك والصدمة والانتظار إلى مشاهد ذات طابع «إيروتيكي». نجلس معهن في الحمام، وتعلق الكاميرا هناك في مشهدٍ طويل ومن ثمّ ... نهاية.
فيلم منال خالد مزيج رائع لما لا تراه العين وراء الجدران، عن أحداث الكواليس فيما الاهتمام يكون مصبوباً على المركز، في الميدان التي تقصدت تغييبه. هو «تناقض» جريء ما بين المجتمع الذكوري وأسلوب  سينمائي نسوي. ربما مراكز الثورات مختلفة عما نعرفه. ربما تكمن وتنبثق في الأحياء المخفية، بينما نكون عالقين في الميدان. على هذا النحو تعمد «حمام سخن» لفت نظرنا إلى ما هو منسي، نخّال أنه بسيط وبديهي، لكن عندما ندركه يكون على عكس ذلك تماماً.