23 شباط (فبراير) من سنة 2013 بينما كانت الشام تنام على نار، وتصحو على بارود، كانت المكاتب القديمة لجريدة «الأخبار» في بيروت خاوية، إلا من بعض زملاء الأقسام الأخرى على اعتبار أنها ليلة الأحد للإثنين أي نهاية أسبوع المدينة «المطحنة». يمكن للمشهد أن يكمله صوت خطوات الراحل أنسي الحاج الذي كان يجوب الممر الطويل ذهاباً وإياباً لمئات المرّات، وكان بمثابة صمّام أمان لكل شيء عدا ما حصل ليلتها! ففي ساعة متأخرة بالنسبة لخبر صحافي مفجع كعادة الجحيم السوري آنذاك، وصلنا بالصوت والصورة نبأ اغتيال الكوميديان السوري الكبير ياسين بقوش (1938 ــ 2013)! رغم عدم معرفتنا الشخصية به، إلا أن القضية كانت نذير شؤم صريح يشي بإمكانية تسيّد الجراد الأسود لمحيط دمشق، واغتياله ببشاعة موغلة في القسوة ذاكرة جيل كامل تربّى على مسلسلات الراحل الكوميدية! كما هي العادة في مثل هذه الظروف الطارئة، أوقفنا صفحات «ثقافة وناس» وكان على كاتب هذه السطور أن ينجز مقالاً سريعاً قبل التحضير لملف شامل في اليوم التالي. لكنّ الخبر بالنسبة لسوري لجأ غفلةً إلى لبنان بعدما انزلقت بلاده نحو درك الخراب الدامي، أثقل من أن يحمله بمفرده. استجمعت قواي للشروع بالشغل بدون فائدة. قصدت الممر بحثاً عن جرعة أوكسجين أو نصيحة ما من أنسي الحاج، فقابلني محمد نعمة بضحكة غريبة عن مثل هذه المواقف! كان يقصد التخفيف بأي شكل قبل أن ألمح انكساره المباغت عندما تعثّر بدموعي. ابتلع ضحكته وربت على كتفي بجملة مكسورة: «العوض بسلامتك». بعدها بدقائق، فتح باب المكتب ليقول بثقة: «أنا معك حتى تنتهي من الكتابة». لم يكن للجملة معنى إلا بعدما أصبحت ذكرى، كأنها تعيد بكثافة صياغة موقف إنساني يختصر دلالة أن يقف بجانبك شخص لا تعرف كثيراً التفاهم معه، لكنه يجيد بحرفة عالية مساندتك ولو ببضع كلمات عابرة. حينها بالفعل شعرت بأنني محاط كغالبية السنوات الأربع التي قضيتها في بيروت، قبل العودة قسراً إلى دمشق. ولم يكن في إمكان سنوات الحرائق المندلعة في الشام نقل حوالي 1000 كتاب كنت اعتبرها تركة غنيّة. لذا وُضّبت في صناديق كرتونية وتُركت في المكتب! وعند أوّل زيارة إلى بيروت، بدّد «أبو خالد» قلقي حول تلك الثروة بجملة حازمة: «وزّعتها منذ زمن، هل أنت جاد بسؤالك عنها؟». خلال نصف عمر قضيتها في «الأخبار» بين زائر ومقيم، كان كل ما أعرفه عن نعمة (كما يتم تداول اسمه في الجريدة) أنه سيوّبخني عند محاولة مراجعة حساب البوفيه بالقول: «لا تدفع، دعهم على حسابي»، أو أنه سيجهز على أيّ مراهقة سياسية بوجهة نظر لافتة من شأنها أن تتركك مع نفسك في جردة حساب طويلة عنوانها: ماذا تعرف؟!لعلّ المشهد الأكثر حضوراً في ذاكرتي الآن جسّده ليلة عيد الجريدة الأخير الذي تجرّأنا على السهر فيه في مطعم قرب الروشة قبل 10 سنوات من الآن... يومها نزل نعمة ليرقص بفرح مهيب لا يجيده إلا صانع متناقضات مثله، وكان علينا أن نعدّ المفاتيح المعلّقة على خصره ونحزر وظيفة كلّ مفتاح! الأكيد أنه لم يكن من بينها مفتاح الراحة الأبدية الذي أمسك به أوّل من أمس ومضى ليحلّق قرب من رحلوا... ربما سيلتقي ياسين بقوش هناك، ليبرر له تلك الابتسامة المباغتة ليلة رحيله، وغالباً سيشرح له متعة قرار الانسحاب وسيفضي له عن أسرار الـ «بروفة» الهانئة لستار الختام، عندما يتعطّل مركز القلق الذي رافقه وسيرافقنا طيلة الحياة!