يصعب تصديق حقيقة أن كل رصيد الفنانة شيرين عبد الوهاب من الألبومات الغنائية هو سبعة ألبومات فقط آخرها «نسّاي» في عام 2018، بالإضافة إلى ألبوم مشترك في بداياتها مع تامر حسني. صحيح أن لشيرين العديد من الأغاني المنفردة («السينغل كما توصف في السوق)، وبعض أغنيات الدراما كأغنيات مسلسل «طريقي» في عام 2015 و«كتير بنعشق» من فيلم «عن العشق والهوى» في عام 2006. لكن تبقى كل تلك الأرقام هزيلة مقارنة بمطربة مثل أنغام تكبر شيرين بثماني سنوات فقط (أتمت أنغام 50 عاماً هذه السنة) لكنها أصدرت ما يزيد عن ثلاثين ألبوماً غنائياً، فضلاً عن أغانيها المنفردة، وأغنيات الأعمال الدرامية والمناسبات الوطنية.يبدو حضور شيرين إذاً أكبر «حجماً» من أعمالها الفنية، ومع عدم نسيان أنّ لديها صوتاً شديد الخصوصية، يجمع بين العذوبة والقوة ودرجة تكاد لا تُلحظ من الخشونة، وشيء مما يسمى «بحّة» الصوت المميزة للمؤدين الشعبيين، مع تمكّن في الأداء طوّرته في صغرها على يد فرقة سليم سحاب التي نصحها بالتوجه إليها معلم المدرسة الذي اكتشف موهبتها في حيّ القلعة الشعبي. تلك الإمكانات الأدائية وُهبت لفنانة من الواضح أنها لم تعش حياة سهلة، وأنها كافحت لا الفقر والصعوبات الاجتماعية التقليدية فحسب، بل كذلك الصورة النمطية «البيضاء» لما ينبغي أن تكون عليه المطربة، بخاصة التي تغني للحب، وبصورة أخص حب الطبقة الوسطى لا حبّ «الميكروباص» والريف والسوق الشعبية. إنها، بصورة ما، «أحمد زكي» آخر، كان عليها أن تقول للمجتمع ما كان يفترض أن يكون بديهياً؛ إن الجمال ليس حكراً على لون بشرة معيّن. والأهم، أن الجمال المعنيّ ينبغي أن يكون أولاً جمال الأداء وقوة الموهبة، قبل أن يكون رونق الهيئة والصورة والأصباغ.
كي تتمكن من تخطي كل ذلك، كان على شيرين أن لا تمتلك الصوت القوي، المتمرّد فحسب، وإنما قبل ذلك، الروح القوية الواثقة. لكن يبدو، أنّ تلك الروح، التي حازتها بلا شك، وإلا ما كانت قد «وصلت» إلى ما وصلت إليه من نجاح واختراق لمعايير السوق والشاشات وصراعات شركات الإنتاج، قد استُهلكت في الطريق، وأن نجاحها المبكر، مع ألبوم «جرح تاني» (2003) قد وضع مزيداً من الضغوط – فوق ما تعانيه بالفعل- على تلك الفتاة السمراء الفقيرة ابنة حي القلعة، التي صارت مكبّلة بعقود الاحتكار من «مكتشفيها»، والذين لم تتمكن من التحرر منهم إلا بعد دفع ملايين الجنيهات كشروط جزائية. لم تكن عملية التحرر تلك سهلة، فبعض النجوم البارزين لم يتمكنوا من تخطي عقود مثيلة إلا بعد عقود من الزمن، أشهرهم وآخرهم بهاء سلطان، أحد أبرز الأصوات المصرية. بهاء (من جيل أنغام نفسه) لم يتمكن إلا أخيراً جداً من «حلّ مشاكله» مع المنتج نصر محروس، بعد ما يقرب من ربع قرن لم يصدر خلاله أكثر من خمسة ألبومات. إنه المنتج نفسه الذي تحررت منه شيرين قبل نهاية العقد الأول من الألفية، بعد معارك صاخبة في الإعلام وساحات المحاكم. وتحرر منه رفيق بداياتها، تامر حسني، بعدها بسنوات، مع شرط جزائي أضخم كثيراً، ناسب شهرته الطاغية في سنواته الأخيرة مع المنتج محروس.
إمكانات وُهبت لفنانة كافحت الفقر والصورة النمطية «البيضاء» لما ينبغي أن تكون عليه المطربة


لكن بدا أن شيرين، فتاة القلعة السمراء، الفقيرة ذات الصوت الوحشي، قد دفعت أثماناً عصبية ونفسية خلال نجاحها. انعكست تلك الأثمان في تصرفات كثيراً ما أثارت غضب المجتمع، بطبقاته الفنية أو القانونية أو حتى السياسية، مثل سخريتها الشهيرة من عمرو دياب خلال زفاف الفنانين عمرو يوسف وكندة علوش، حيث بدت شيرين في حالة «غير طبيعية»، أو مَزحتها الثقيلة بخصوص نهر النيل و«البلهارسيا» خلال إحدى الحفلات الفنية (حين طلبت منها إحدى الحضور غناء «ماشربتش من نيلها»)، وتندرها عن قدرتها عن الكلام «بدون أن تتعرض للحبس» في حفلة خارج البلاد. لم يعرّضها ذلك إلى غضب أو انتقادات فحسب، بل إلى ملاحقات قضائية كذلك، فضلاً عن إغضاب نقابة الموسيقيين (التي تغضب بسهولة على أي حال). التصريحات «المنفلتة» كانت مجرد جزء مما بدا «تنفيساً» عن حياة ضاغطة عاشتها شيرين، الزيجات المتتالية قد تكون عرضاً آخر للمشكلة نفسها، وإن بدا تعدد الزيجات سلوكاً «فنياً» دارجاً. لكنّ الأداء «غير الطبيعي» عاد مرة أخرى مع الزيجة الأحدث من المطرب حسام حبيب. أداء رَاوح – كأنه اكتئاب ثنائي القطب- بين السعادة الهائلة وتقبيل الأيادي على المسرح، واتهامات العنف وبلاغات السرقة وقصّ الشعر وصولاً إلى مشكلات الإدمان والاحتجاز في المصحة.
تمتلك شيرين – ككل موهبة طاغية – عشاقاً لا مجرد جمهور، بالقدر نفسه الذي تمتلك فيه أعداء داخل الأوساط الفنية وخارجها، لكن ربما أبرز ما أثارته في السنوات الأخيرة هو الشعور العام بالخسارة لكل هذا الإهدار لطاقة طربية يبدو أنها تفتقد النصح والإرشاد «الفني». تفتقر إلى مجموعة فنية ترعى موهبها كما جرى في الماضي القريب مع محمد منير، وفي الماضي الأبعد مع أم كلثوم، إذ يبدو أن ما تبقّى من روحها القوية لم يعد كافياً لحمايتها من التخبّط أو الوقوف في المكان.