بعد مضيّ أربع سنوات على انفجار الأزمة، لا يزال التعامل معها ظرفياً ومؤقتاً. هي ليست أزمة عادية، بل تأتي نتيجة تراكمات لعقود. السلطة بكل أشكالها وتنوّعاتها تتعامل مع الأزمة بفي إطار تقطيع الوقت، وترقيع القضايا... لا أحد لديه استراتيجية أو يناقش حلولاً. الكل يريد التعامل مع الأزمة من زاوية الحصّة التي يمكن زيادتها أو اقتناصها. الدعم مثلاً، في بداية الأزمة، وبموجبه بدّد نحو 14 مليار دولار من مخزون لبنان بالعملات الأجنبية، هو مثال على نوعية القرارات. مواجهة الوقائع ليس أمراً يمكن القيام به في ظل قرارات كهذه. ومثلها أيضاً مسائل مثل عملية توزيع الخسائر، أو رسم دور وتوجهات جديدة للبنان؛ هل سيبقى خزاناً لصناعة العمالة والهجرة؟ هل ما تبقى لديه من موارد توفّر له نهوضاً، ولو بطيئاً؟ هل بإمكانه أن يلعب دوراً ما وسط محيط يغرق بتكتلات سياسية متنافرة وتبعية اقتصادية ومالية للخارج؟ في لبنان النقاش محصور بالهوية الزعاماتية لا بالمشروع. انتخاب رئيس للجمهورية أو تعيين حاكم لمصرف لبنان وغيره... للآن ليس هناك مشروع مطروح للنقاش. أبناء النظام يرون أن استعادة النموذج السابق متاحة إذا تمكّن لبنان من إعادة التشبيك المالي مع الخليج (العودة إلى التسوّل المالي مقابل الارتهان السياسي)، بينما ثمة آخرون يرون أن الوقائع تستوجب المفاضلة بين خيارات ليست مطروحة بعد
شربل نحاس: نحن الآن في مرحلة اللاخيار للاستعفاء عن التعامل مع الأزمة

شهدنا في الفترة الأخيرة ترشيحات ومعركة سياسية على الرئاسة تنافس فيها سليمان فرنجية وجهاد أزعور. هل تعتقد أن التنافس على الانتخابات الرئاسية يصب في مصلحة مشروع واضح ومحدّد؟ لا وجود لتنافس. اللاعبون الأساسيّون معروفون، ولدى كل واحد مجموعة وكتلة نيابية. كل واحد منهم وبحياتهم اليومية، معرّض صباح مساء، لمشكلات وشكاوى وضغوطات من الداخل والخارج حول مسائل متشعّبة تدور حول نقطتين: التفليسة وتوابعها (الكهرباء والأقساط وسواها)، والهجرات (الهجرة الوافدة والخارجة). وهاتان النقطتان متداخلتان مع بعضهما البعض.

ارشيف (مروان طحطح)

فالهجرة عنصر أساسي يدفع التكيّف نحو استيعاب مفاعيل التفليسة. والمساعدات الآتية، بحكم التفليسة، للسوريين واللبنانيين تساعد في التكيّف أيضاً. أمران متداخلان وظيفياً، وفعلهما تراكمي. فالتغيّرات التي تحصل تتعاظم ولا تعود كما كانت. الزعماء الراغبون بالحوار مع بعضهم، وكأنهم لا يعرفون بعضهم، ليسوا أغبياء، بل هم عاجزون بنيوياً عن التعامل مع التفليسة، أي توزيع الخسائر. فذلك يعني أخذ خيارات تصيب فئات اجتماعية - طبقية - مهنية - عمرية، ليتم تعزيزها على حساب أخرى. وهذا أمر يتناقض بنيوياً مع تكتلات بنيوية لدى كل زعيم، حيث تحتوي على فئات يجب تعزيزها وأخرى ستُصاب. أفضل ردّ لديهم على هذه الشكاوى والضغوطات المحلية والخارجية يتمثّل في الهرب من المواجهة نحو : الحقّ على الغير، وبكرا بتظبط. هم عاجزون وأذكياء. فقد اخترعوا سابقاً العملة الوهمية، من دون أن يتعرّض أحد منهم لمواقع وخيارات لا يمكن اتخاذها. إنجازهم هذا يسمّى «تنظيم الانتظار». انتظار ماذا؟ أن تأتي طبخة جاهزة من الخارج. هم يقرّون بذلك علناً. على أن يتعاملوا مع تطوّرات الطبخة الآتية في لحظتها. ولحين حصول ذلك، يشرفون على التكيّف حتى لا يحصل انفجار أمني. لذا، أنجزوا الانتخابات النيابية، وهم سعداء جداً بظهور فئة التغييريين والمستقلّين. ما يحصل هو إنجاز استثنائي لتنظيم الانتظار واستيعاب الضغوط الداخلية والخارجية، والاستعفاء من أعباء الخيارات المتعلّقة بالإفلاس وتوزيع الخسائر وإعادة تنظيم الأرض والسكان.

إذاً، هل هناك مشروع ظاهر في اتجاه إعادة تنظيم الاقتصاد السياسي، بمعزل عن اسم الرئيس المنتخب أو المرشح، غير تنظيم الانتظار؟
التفليسة والهجرات لم تحصل صدفة أو فجأة. فهذه مسائل تراكمت من وقت ما في الثمانينيات. يومها أُنتج نظام سياسي، ثم رسا في مطلع التسعينيات، واستمر نحو ثلاثين سنة، وهو نظام الهدنة. ليعمل هذا النظام وفق مبادئ إقراره التوافقية والميثاقية، تطلّب الأمر وصيّاً خارجياً أو حكماً، وكان يقوم على تلافي الحرب والتفاوض المستمرّ على توزيع كل شيء، من الأدوار إلى المغانم. الهدنة لا تعبّر عن دولة وليست حرباً أيضاً. يحتاج هذا النظام وظيفياً إلى هجرة تأتي بالأموال، وإلى هجرة وافدة للعمل في الداخل، على أن تتراكم الأموال الوافدة كديون. من لحظة بدايته كان يراكم مفاعيله الطبيعية التي ترجمت بالإفلاس والهجرة. أيٌّ كان لديه مشروع، لا يمكن أن يكون إلا إنهاء نظام الهدنة، وأن يجري التخلّي عن فكرة أن قيام شرعية الدولة هو رهن توافق أطراف الهدنة. لذا، نقول إن الأزمة هي فرصة. ستبقى الطوائف، وسيبقى الزعماء، لكن لا تعود شرعية الدولة مرتهنة لهؤلاء. هذا المشروع ليس مطروحاً الآن، لا من قبل أي لاعب سياسي فعلي من هؤلاء الذين يذكّرون دائماً بالقانون والدستور، مع أن الأمر يتعلق بما هو ممارس فعلياً.

إذاً، ما هو طموح أو دور رئيس الجمهورية؟ وما هو مضمون المشروع؟
في أحسن الحالات، وضمن منطق انتظار الترتيب الخارجي - لذلك مهم جداً ما يقوله السعوديون والإيرانيون والأميركيون والفرنسيون وغيرهم - يصبح الأمر أنه عدم وجود رئيس للجمهورية هناك راحة لهؤلاء وإعفاء من قيام حكومة. فإنشاء حكومة قد يتطلب أشهراً، لكن لا يمكن لهذه الحكومة إذا تشكّلت إلا أن تأخذ قرارات بشأن الرواتب والموظفين وإعداد الموازنة والكهرباء وحاكمية مصرف لبنان... بمعنى أوضح، الحكومة مجبرة أن تتخذ قرارات على صعيد الخسائر والتفليسة والهجرات. وجود رئيس للجمهورية هو إحراج. لكن قد يأتون برئيس جمهورية تحت الضغوط الخارجية، وسيكون دوره إطالة مرحلة الانتظار، أي تأليف حكومة والتفاوض مع صندوق النقد، حتى تأتي طبخة الخارج والأموال.
هل الحاجة إلى الاستثمارات لخلق فرص عمل تتقدّم على الحاجة لتأمين شروط الحدّ من هجرة الشباب؟ هذا يعني نقاشاً في ما إذا كانت النسبة الأكبر مما تبقى من موارد نقدية يجب أن تذهب لتأمين التغطية الصحية الشاملة والتعليم المجاني ورواتب التقاعد


في ظل وجود دعوات إلى تطبيق ليبرالية فعلية بعيدة من ليبرالية الطوائف المتوافرة في لبنان، هل يأخذ الصراع على السلطة طابعاً أيديولوجياً بين اقتصاد حرّ ونموذج آخر؟ وهل المقصود بالانتظار إعادة قولبة النموذج بشكل ليبرالي صافٍ من العلاقات الطائفية؟
مقولة أن الاقتصاد حرّ، يجب تفسيرها: هو اقتصاد حرّ قياساً على ماذا؟ هل يعني ذلك أنه لا حاجة لإطار نظام، أي لسلطة؟ هذه مقولات تعبّر عن غباء كامل. الذين يتحدثون عن اقتصاد حرّ ويفسّرونها بأن ليس هناك حاجة لإطار ناظم، فلينظروا إلى الولايات المتحدة الأميركية، بمعزل عن سطوتها العالمية وقدراتها العسكرية والنقدية. فلينظروا كيف تتعامل مع الشركات والمصارف وما هو نظامها الضريبي، ألا يعلمون أنها تلاحق مواطنيها إلى آخر قفير نحل في آخر بلد في العالم ليدفع الضريبة؟ من أكبر الشركات المالية والمصرفية التي أفلست مثل ليمان براذر وسيليكون فالي، ألم نرى تدخّلاً سلطوياً قوياً وسريعاً وحاسماً؟ هل لديهم فكرة عن حصّة الضرائب من الدخل وحصّة الإنفاق العام من الاقتصاد؟ حتى أيام ريغن كان الشطر الأعلى من الضرائب على الدخل يصل إلى 70% ويتخطاها.
الأمر في لبنان يحتاج إلى جديّة في النقاش. التوزيع العادل والهادف للخسائر كما نأمل، يعني أن هناك خيارات يتوجب نقاشها: هل الحاجة إلى الاستثمارات لخلق فرص عمل تتقدّم على الحاجة لتأمين شروط الحدّ من هجرة الشباب؟ الخيار برأيي، يعني أن النسبة الأكبر مما تبقى من موارد نقدية يجب أن تذهب لتأمين التغطية الصحية الشاملة والتعليم المجاني ورواتب التقاعد. النقاش واجب أيضاً في خيار آخر مثل القول بأن الأولوية التي تتقدم، أن نردّ ما تبقى من المخزون النقدي للمودعين. هنا فقط يصبح النقاش متعلقاً بخيارات سياسية انطلاقاً من شرعية السلطة. هذه الخيارات طبقية أيضاً وتؤثّر في الهجرة. لنأخذ مثلاً، الصين الشيوعية التي اعتبرت أنه من أجل استعادة موقعها العالمي، يجب أن تخلق مناطق اقتصادية خاصّة معفية من الضرائب لاجتذاب الاستثمارات وامتلاك التكنولوجيا، ومقابلها منعت الأسر من إنجاب أكثر من ولد واحد للتقليل، على مدى عقود مقبلة من عدد الأولاد، لأنه بنتيجة تزاوج الخيارين تكون الصين قد انتقلت إلى مرحلة أخرى. الواقع، أن الصين ورثت بنية عمرية في زيادة عدد الشريحة الأكبر عمراً وانخفاضاً في عدد السكان. هذا خيار اتخذ بمعزل عن صحته. والأمر هنا لا يتعلق بالأيديولوجيا، بل على تقدير للمخاطر وللمحيط قبل نعتها كوصفة صحيحة، أو يمين ويسار. الكسل وضعف الجرأة يدفعان نحو استسهال هذه التوصيفات. هل نرى نقاشاً في هذه الخيارات بين اللاعبين الرئيسيين في لبنان؟ بالطبع لا. هذه علامة عجز بنيوي في النظام السياسي.

أبناء النظام يروّجون بأن الأمر يحتاج إلى ترتيب فقط على قاعدة أن لبنان بلد صغير وأن شرط تدفق الأموال إليه هو وقف الفساد، وكأنه ليس هناك عطب أساسي في بنية هذا النموذج وأنه يحمل عوامل تفجيره في الداخل؟ ما الذي يميّز بين أبناء النظام والسلطة من مصارف وأصحاب رساميل وغيرهم، وبين البنية الزعماتية السياسية؟
هناك فرق أساسي بين من يؤدّي دوراً مرسوماً، وبين الآخرين. فالغاية من الدور المرسوم مفهومة ومحدّدة، وتتمثّل في تحقيق الأرباح. هذا أمر واضح لا يحتاج إلى تحليل واستنتاج. والشباب، مثلاً، يريدون عملاً للحصول على دخل وللتقدّم الاجتماعي، وهم يبذلون الجهود على هذا الأساس. غايات الأفراد، بمقدار ما هم يتصرّفون في إطار الدور المرسوم، هي غايات معلومة سلفاً وليست مفاجئة، بينما يختلف الأمر عندما يكون للدور الملقى على شخص ما، تبعات (وهنا تأخذ كلمة سياسة بعداً آخر) سياسية. فلا تعود لديه السهولة نفسها بسلوكه، ولا سيما في الأزمات، كما خارجها أيضاً، أي عندما تكون الأمور غداً مثل الأمس، فهذا الشخص مضطر أن ينظر إلى كل الأدوار التي تتناقض والطروحات التي تنطلق منها في المجتمع. أي بين المودع وصاحب البنك مثلاً، وبين مالك الشقة والمستأجر... وبالتالي قرارات هذا الشخص أصعب ومهمته أعقد بكثير من أصحاب الدور المحدّد سلفاً. من المفهوم ما سيقوله التجار وأصحاب المصارف والموظفون والمتقاعدون، ولن يكون مفاجئاً. إنما العمل السياسي في حالة الأزمة هو المعرفة والجرأة لحسم الخيارات التي ستصيب أناساً وتفتح آمالاً لأناس آخرين. ليست مسألة تقنية. ليسوا تكنوقراط. هذه خيارات. فلننظر إلى السعودية وإيران حيث الخيارات محفوفة بمخاطر. في لبنان لا أحد يواجه هذه الخيارات، بل كل واحد منهم يطالب بحصّته. نفهمهم. لكن المسؤولية السياسية تشمل معرفة كل هذه الأدوار لمعرفة منطلقات ترسم هذه الأدوار، فيتم أخذ القرار للمفاضلة بين هذه المجموعات. هنا تتعطل كلياً قدرة الزعماء في لبنان على أخذ القرارات بمجرد أنهم مقيّدون بكونهم زعماء طوائف. هنا قضية النظام السياسي.
قالها رفيق الحريري بوضوح: «شراء السلم الأهلي بالدين». كان يأمل أن المنطقة "بتزبط" والدين ينتهي. سقط الأمر في عام 1997. لكن بالفعل، هذا معناه آلية توزيعية، تدفع الكتل التي تكوّنت أيام الحرب إلى الارتضاء بأن تصبح شريكة في تعاونية، وألا تعود إلى الحرب. أُخذ هذا الخيار في عام 1989 وسقطت مقوماته في عام 1997 وأدّى إلى الأزمة. أما اليوم فأصبحنا في مرحلة انتظار بلا أي نقاش في أي خيار. في وقتها كانت آلية التوزيع هائلة: تثبيت سعر الصرف وتعزيز القدرة الشرائية التي جعلت من عائلة بسيطة أن يكون لديها عاملة في الخدمة المنزلية مثلاً. وهذه العاملة تحصل على 150 دولاراً لتؤسّس بيتاً في بلدها، بينما في لبنان فإن الدخل الذي سمح بتسديد هذا المبلغ لها، دفع الأسعار المحليّة قياساً على أميركا إلى الارتفاع ثلاث مرات، أي أصبحنا أغنى مما كان قياساً على أميركا ثلاثة مرات. وفي النتيجة لم يعد بإمكاننا تصدير أي شيء، بل بات لدينا قدرة استيراد بما فيها عمالة، وغلاء في كلفة المعيشة وهجرة في الشباب. هذه كانت عملية توزيع محكمة تترجم خياراً سياسياً مجتمعياً. يمكن تسميته بالفساد. أي شعار يعبّر عن خيار مجتمعي سياسي اقتصادي. ليست مسألة فساد جهة ما بدرجة أكبر من غيرها؛ رفع القدرة الشرائية واستمرار العجز البنيوي، ووظيفة المصارف باستجلاب المصارف لتمويل العجز البنوي، وإيهام الناس بأن لديها قدرة شرائية... هذا خيار لا يجوز اختزاله بكلمة فساد باعتبار أن إزالة الفساد يؤمّن مساراً صحيحاً نحو الازدهار. هذا الخيار طُبّق واستمرّ تطبيقه رغم تعطّل مقوّماته. انتهى هذا الخيار ولا يمكن الرجوع إليه. لذا، التفليسة والهجرات هما مكونين لهذا الخيار وليسوا منفصلين عنه، والكلام السائد عن أن «الحقّ على إيران أو أميركا وجماعة الخليج وبكرا منظبطها وبترجع»، هي قراءة لا يقوم بها أغبياء، إنما هي تعبير عن عجز.

نقولا شمّاس: مشروعنا التشبيك المالي مع الخليج بكرا أكيد بترجع تظبط

بعد أربع سنوات لا تزال الأزمة قائمة، ورغم أن هناك حديث متواصل عن انهيار في النموذج إلا أن الأمر يقتصر على الكلام بلا أي نقاش فعلي متصل بالخيارات المتاحة، فما هو برأيك إطار الاقتصاد السياسي الذي يجب أن يكون عليه لبنان؟
عندما انتهت الحرب الأهلية، قرأت كثيراً عن النموذج الاقتصادي الذي يمكن أن يتبناه لبنان للنهوض في ظل بنية اقتصادية مدمّرة وحماية اجتماعية ممزّقة، وتبيّن لي أن الاقتصاد الاجتماعي الحرّ، وهو ترجمة لمفهوم سائد في ألمانيا، هو النموذج الأفضل للتوفيق بين الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. كان ذلك في التسعينيات، ومع الوقت تراكم الدين، وشحّت إمكانات الدولة ولم يعد هناك موارد وإمكانات كافية للاهتمام بالشأن الاجتماعي، علماً بأن لبنان ثّبت سعر الصرف الذي يمثّل الحماية المطلقة لكل الأسر. أي حاول أن يدعم بالشكل الخطأ الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه.

(هيثم الموسوي)

أنا متأثّر بثلاث اقتصاديين: ميلتون فريدمان الذي يفسّر سبب الانكماش الأميركي في العشرينيات بالنقص الحادّ في السيولة، وأبدى استعداده لضخّ المال بالهيليكوبتر خلال الأزمات الكبرى. أُطلق على ذلك «هيكلوبتر ماني». في المقابل، هناك جون مينارد كينز الذي يرى أنه خلال الأزمات يجب أن ينفق البلد على مشاريع من أجل تشغيل الناس وإطلاق الاقتصاد. وبين الاثنين، هناك بول كروغمان الذي يتحدّث عن العجزين التوأمين وخطرهما الكبير على الاقتصاد. خياري هو وقف العجزين التوأمين، وأريد حلولاً لا تقتصر على النقد، إنما تشمل المال والاقتصاد وأن نختار التحويلات المفتوحة والحرية في السياسة النقدية بكلفة تحريك سعر الصرف. ففي لبنان لم يفشل النموذج الاقتصادي، إنما القوى السياسية اتّخذت ستة قرارات أوصلت إلى الجحيم الحالي، ثلاثة منها قبل الأزمة، وثلاثة بعد الأزمة، وهي بالتوالي:
- تثبيت سعر الصرف. ربما كانت النية جيدة بعد الحرب للجم ويلات التضخم، لكن تبين أن لبنان لا ينتج دولارات، وتطلّب الأمر استيراد الدولارات بأسعار كبيرة جداً لتثبيت سعر الصرف، أي لم يكن لدينا إمكانات. هذا الخطأ الأول الذي ارتكبته كل المجالس النيابية وكل الحكومات المتعاقبة.
- سمحوا ببقاء النزف في كهرباء لبنان. كنا نعتقد في البدء أنه نزف جانبي، لكنه أثّر على خزينة الدولة وعلى كل القطاعات الإنتاجية وكبّد أكلافاً باهظة.
- سلسلة الرتب والرواتب كانت خطأ ولكن ليس بالمطلق، بل تمويلها لم يكن متوافراً وتقديرها كان خاطئاً.
- التخلّف عن سداد اليووربوند تمّ بشكل غير منظّم.
- الدعم المتفلّت في ظل فلتان داخلي وتهريب إلى الخارج.
- قرار بقوّة الواقع يتعلق بتسديد التسليفات المصرفية للقطاع الخاص باللولار أو بالليرة اللبنانية.
الدعم وتسديد التسليفات كبّدا 51 مليار دولار من أموال المودعين. لم يفرُط النموذج، فلو كان لدينا نموذج ليبرالي أو اشتراكي أو وسطي بينهما كان سينهار بسبب سوء إدارة الشأن العام.
هناك ثلاث مسائل لا يمكن أن تتوافق مع بعضها البعض في وقت واحد؛ حرية التحويلات، استقلالية السياسة النقدية تجاه الخارج والتحكّم بالفوائد، وتثبيت سعر الصرف. لا يمكن القيام بهذه الأمور الثلاثة معاً. فإذا اتفق على الإقرار بحرية التحاويل وتثبيت سعر الصرف، فبالنتيجة سيتحتّم علينا أن نرفع أسعار الفوائد حتى لا تخرج الأموال. أما إذا أغلقنا باب التحويلات وثبّتنا سعر الصرف، فبالإمكان فرض سعر فائدة منخفضة لأن الأموال لن تخرج. لكن في لبنان تقرر تثبيت سعر الصرف وحريّة التحويل، من دون ارتقاب لما يتطلبه ذلك من أسعار فائدة خيالية. هذه السياسة أتت كنتيجة ولم تكن خياراً. لذا، من الآن فصاعداً، يجب أن يكون سعر الصرف نتيجة للقرارين الآخرين. أنا مع أن تبقى حرية التحويل، وأن يكون للسياسة النقدية استقلالية تتيح لها التحكّم بأسعار الفائدة، على أن نقبل بأن يكون سعر الصرف عائماً ومداراً. تثبيت سعر الصرف لم يعد مقبولاً.

تتحدث عن سوء إدارة أدّى إلى الانهيار، وكأنك تقول إن النموذج قابل للحياة بعد تحسين إدارته، بمعنى أن الأمر لا يتعلق بخيارات اتخذتها القوى السياسية لتنظيم الاقتصاد والمجتمع أدّت إلى الانهيار؟
أفضل الاقتصادات، أن يكون فيها ديموقراطية حقيقية ومؤسّسات فعّالة وليست اسمية كما هي في لبنان، وأن يكون فيها نظام ليبرالي حيث يكون للناس حوافز لخلق الثروة وتوزيعها مع تطعيمها بشقّ اجتماعي أساسي لحماية الناس، ولا سيما في هذه المرحلة.

كيف تفسّر أن أصحاب الرساميل الذين يتشكّلون في إطار يُدعى الهيئات الاقتصادية، يشيرون إلى الـ«فساد سياسي» باعتباره الخلل الأبرز؟
الخلل الأبرز هو سوء الإدارة. الأساس يكمن في تلك القرارات المتخذة أو القرارات التي لم تتخذ. لو لدينا حوكمة صالحة، فأي نموذج سيصلح في لبنان، سواء كان يميل نحو اليمين أو اليسار. الحرب في سوريا كلفت في لبنان الكثير. ربما كان هذا العامل الأول للانهيار في لبنان.

ألم يُبنى النموذج على استقطاب الأموال التي تدفقت في أوقات الاستقرار، بينما تشحّ أثناء اللااستقرار؟
أيام الحرب الأهلية لم يكن لدينا إشكاليات كبيرة كالتي نراها اليوم. لكننا نرى أن هناك شعبين موجودين في بلد واحد. في بروكسل يقولون إن الكلفة السنوية 5 مليارات دولارات.

ألا تعتقد أن هذا كلام في الشعبوية السياسية، لأن لبنان أساساً اعتمد على عدد كبير من السورييين للعمل في قطاعات مختلفة لتعويض هجرة اليد الالعاملة المحلية؟
هذا صحيح، نحن معتادون منذ التسعينيات على أن هناك 400 أو 500 ألف عامل سوري في لبنان، لكن لاحقاً لم يعد الأمر يتعلق باستباحة أسواق العمل، إنما صار يشمل أسواق الإنتاج. صار لدينا مؤسّسات صغيرة وحلاقون ومطاعم ومهن محمية كلياً مثل المحاماة والطب... صاروا موجودين أينما كان. العدد يختلف كثيراً، هناك فرق بين 500 ألف ومليونين. وتواجدهم الجغرافي أيضاً. فهناك فرق بين وجودهم في أماكن يحتاجهم الاقتصاد، أو في أماكن فيها فوائض محليّة اضطرت للهجرة بسببهم. المخيف، هو أن الديموغرافيا هي من أبرز محرّكات النموّ الاقتصادي. على أي ديموغرافيا يجب أن نستند؟

السلطة لم تتعامل مع الإفلاس في كل المراحل. واجهت الإفلاس المخفي في الدفاتر بتحفيز التدفقات من الخارج عبر مؤتمرات باريس. ولاحقاً شحّت التدفقات وانتقلنا إلى مرحلة إدارة الإفلاس، وصرنا نتبادل الاتهامات بالمسؤوليات على شكل «الحقّ على السلسلة» و«سوء إدارة الشأن العام»، بينما من الواضح أيضاً أن النموذج ليس قابلاً للاستمرار إلا بهذه التدفقات، فالأمر لا يتعلق بقرار التوقف عن السداد فحسب، إنما لم يكن هناك نقاش في الخيارات، وأنتم، أي أصحاب الرساميل، انخرطتم في لعبة «الحق على مين» وأنتم كنتم أكثر المستفيدين من حقبة تثبيت سعر الصرف ودعم الاستهلاك؟
لبنان ليس استثناء في مؤشرات الاستهلاك عن ألمانيا وأميركا. الاستهلاك يحسّن المستوى المعيشي للكل. فهل كان خطأ أن 150 ألف أسرة تملّكت منزلاً، أو سيارة، أو أتيح لها قضاء إجازة في الخارج؟ لكن ما حصل هو أن الإنتاج لم يكن كافياً، ولم نقدر على تسديد ثمن ذلك بسبب سوء إدارة مثلث التحويلات - النقد - سعر الصرف. الهيئات تردّ عنها الضربات. اليوم هناك 50% من الطاقة التجارية خارج السوق. الدولة رمت كل شيء على الهيئات والمصارف. اقتصاد الكاش هو كارثة، فإذا لم يكن لدينا مصارف تتوقف كل الأعمال. كروغمان يقول إنه إذا كانت هناك أزمة مصرفية فوق أزمة مالية ونقدية، فنحن في مستوى آخر من الأزمة، ولا سيما في لبنان حيث لا توجد أسواق مالية والوساطة المالية مقتصرة على المصارف فقط. الهيئات إلى جانب جمعية المصارف تدافع عن حقوق المودعين لأننا نحن وغيرنا مودعون. المحرّك الأساسي للحياة الاقتصادية هو القطاع المصرفي، صحيح أن هناك انتعاش لكن الأموال لا تدور في الاقتصاد.

أليس النشاط المتولّد داخلياً في حدود متدنية جداً، وأن الاقتصاد محفّز بالاستهلاك المستورد؟
نحن نستورد للصناعة، ومواد أولية للسياحة. ليس لدينا شيء في لبنان. مدير العام وزارة الاقتصاد يقول إننا نستورد 86% من حاجاتنا الغذائية. الاستهلاك ليس شرّاً.

ما هو موقفك تجاه عملية إدارة توزيع الخسائر التي تقوم بها السلطة؟
أنا أتحفّظ عن كلمة خسائر. فالدولة راكمت ديناً سيادياً بالعملات الأجنبية، وعندما وقعت في عجز ظهرت الفجوة المالية، والآن يقولون إنهم يريدون توزيع خسائر. المُقترض يقول للمُقرِض أنه لا يريد تسديد دينه وأنه يسميها خسائر. هذه هرطقة. الهيئات أشارت إلى هرمية في المسؤولية؛ الدولة، المصرف المركزي، والمصارف التجارية. لكنهم يقولون إن المصارف التجارية هي المسؤولة. أن يتم تحميل المصارف فوق طاقتها، بالإضافة إلى كلام عن شطب الودائع هو أمر مرفوض وهو وصفة للإفلاس.

أنت تختصر الخسائر بالخسائر في المصارف، لكن في إدارة الأزمة تتمظهر خسائر مثل الهجرة والإفراط في الاعتماد على الاستيراد، وهناك شبه تدمير للطبقة الوسطى، واتساع عريض للطبقات الأفقر... فما هي الخيارات التي تراها مناسبة للتعامل مع هذه الخسائر أيضاً؟
الاستهلاك لم يزد لأن أكلاف الاستيراد زادت بسبب جائحة كورونا وبسب حرب أوكرانيا، فضلاً عن أن لبنان هو منصّة للاستهلاك السوري في لبنان وفي سوريا. كما أن الحديث عن الدولار الجمركي حفّز الاستهلاك والتخزين، ورأينا استيراد ظرفي ومؤقّت كبير يتعلق بألواح الطاقة الشمسية. القطاع التجاري باع بالمفرق نحو مليار دولار ذهب ومجوهرات. وفي عام 2023 لن نرى العجز الذي رأيناه في عام 2022. جنى عمر الطبقة الوسط ذهب في المصارف، وإعادة تدعيمه متّصل بإعادة تكوين الودائع، لأنه من الأسهل تعزيز المخزون على توليد مداخيل جديدة. لست يائساً لكن الدولة لم تأخذ الخيارات الكبيرة بعد، ولم تبتّ بموضوع الودائع، وهناك قرار يتعلق بالنزوح السوري وتأمين العودة.
لو كان لدينا حوكمة صالحة، لكان أي نموذج سيصلح في لبنان، سواء كان يميل نحو اليمين أو اليسار


إجاباتك ليست واضحة؛ هل أنت تعتبر أن الخيارات التي اتّخذتها السلطة كانت عشوائية وتحمّل طبقات، وتدفع نحو الهجرة؟
لم يُتّخذ أي قرار من أربع سنين إلى اليوم. الحكومة كأنها تستحي بقراراتها.

سواء انتخب جهاد أزعور أو سليمان فرنجية، فما الفرق بالنسبة إلى الخيارات؟
المهم أن يأتي رئيس جمهورية يجمع اللبنانيين، ويفتح الباب على استقطاب الدولارات من الخليج. بالنسبة إليّ، من ينجح، هو من يقدر على ردّ الدولار السعودي إلى لبنان من خلال استقطاب السيّاح، وإعادة فتح أبواب التصدير، والاستثمارات المباشرة. نحن نعيش اليوم في ظل خنقة مالية من الخليج. أما الرئيس القادر على التشبيك المالي مع الخليج، وانتظام العمل المؤسساتي سيكون بطلاً.

أنت تتحدث عن خيارات سياسية قد لا تكون متاحة في ظل تموضع لبنان خارجياً، فهل المشروع الأساسي هو التشبيك المالي مع الخليج؟
ما أقوله أنه يجب أن نتفق في الداخل، وأن ننظر بشكل أساسي إلى مصدر الأموال من الخارج. الخليج لطالما ساعد لبنان. يجب أن نردّ هذه المشهدية للبنان.

كأنك تقول: «بترجع بتظبط»؟
أكيد بترجع بتظبط. لبنان «ينعطب» بسرعة وقادر على الانتعاش بسرعة. هناك تحديان وجوديان؛ الودائع، النازحون السوريون. الحكومة لم تأخذ قرارات جازمة بعد في هذه المسائل. يجب تكوين الودائع ولو تطلّب الأمر عشرة سنين، وإعادة تنظيم العودة إلى سوريا. هذه مخاطر وجودية. مهما كان النموذج، الأكيد بترجع بتظبط.