في مقال نُشر بتاريخ 12 حزيران 2023 في ملحق رأس المال، يطرح الكاتب «محمد شعباني» التساؤل التالي: «هل يتخلّص الاقتصاد السعودي من المرض الهولندي؟» ونطل من شرفة العنوان، لنرى أن شكل المعاينة يردّ أسباب المرض إلى وجود النفط، «وهو المورد الذي تحوّل إلى عامل لتراخي الاهتمام بالقطاعات الاقتصادية المنتجة، وعزوف الكثيرين عن العمل بعد ارتفاع الإنفاق الحكومي، وتراجع الاعتماد على الضرائب مع الوفورات المالية»، على حدّ توصيف الكاتب. كما أنه يعتبر أن الحلّ يتمثّل في توافر «إرادة سعودية» لتنويع الاقتصاد وتحقيق التنمية واستغلال شرط التقارب السعودي الإيراني. في هذه المادة سيقتصر النقاش على شكل معاينة الاقتصاد السعودي فقط.
مرض هولندي أم تبعيّة لبلدان المراكز؟
قد يكون كلام شعباني صحيحاً إذا عزلنا الاقتصاد السعودي عن الاقتصاد العالمي وعن التاريخ، وهذا ما لا يجوز طبعاً على اعتبار أن الاقتصاد السعودي هو جزء من كل وله موقعه ووظيفته في هذا الكل. أما إذا أردنا تشريح الاقتصاد السعودي كجزء من هذا الكل، أي كبلد تابع لبلدان المراكز في نظام اقتصادي عالمي إمبريالي تقوده الولايات المتحدة، فإن أسباب «المرض الهولندي» وأعراضه تتهافت ليحلّ محلّها أسباباً أخرى تتعلق بالتبعية الخليجية لدول المراكز. فقد خُصصت بلدان الخليج، من خلال تقسيم العمل الإمبريالي على الصعيد العالمي، للعمل في الصناعات الاستخراجية. كما أن وجود النفط في اقتصاد ما، لا يؤدّي بالضرورة إلى الإصابة بالمرض الهولندي. ولنأخذ مثالاً، فنزويلا التي تتفوق على السعودية في امتلاك أكبر احتياطي من النفط وليست مصابة بهذا الداء، بل على العكس، إنها تعاني اقتصادياً من الحصار بسبب رفضها لأن تكون بلداً تابعاً للنظام الإمبريالي؛ أي أن تكون خاضعاً للاقتصاد العالمي المدولر أو تابعاً للنظام الإمبريالي العالمي. والأمر ذاته نجده في الاقتصاد الإيراني الذي يحتلّ المرتبة الثالثة عالمياً لناحية احتياطيات النفط. أما في ما يتعلق بالمؤشّرات الاقتصادية التي ذكرت في المقال فنحن لا ننكر صحتها، ولكن عدا عن أنها تتجاهل القيمة النسبية لهذه التنويعات وأثرها على الاقتصاد السعودي ومدى ابتعاد تمويلها عن عائدات الموارد النفطية ومدى قدرتها على المساهمة في تحقيق التكامل الاقتصادي، نريد التأكيد في هذا المقال، ورغم صحّة هذه المؤشرات، على محدودية المدى الذي يمكن أن تحققه السعودية في تنويع اقتصادها، وفي تحقيق «التنمية» في ظل التبعية لدول المراكز. كما أن التنمية، كما ذكر في المقال، هي «قرار وإرادة» سعوديّين، وهذا صحيح إذا كان الاقتصاد السعودي اقتصاداً معزولاً. لكن، كما ذكرنا سابقاً، إن الإرادة السعودية تابعة لإرادة ومشيئة النظام الإمبريالي العالمي، وللاقتصاد السعودي ارتباطاته الوثيقة بهذا النظام، وله وظيفته ومكانه المحددين، كما له حدود وهوامش لا يمكن تخطّيها طالما بقي اقتصاداً تابعاً. فما هي حدود هذه التنمية وهذا التنويع الاقتصادي في ظل التبعية؟

تبادل غير متكافئ
نستطيع تقسيم العالم اليوم على أساس بعض الخصائص المميزة إلى نوعين، وهذا التقسيم يتناسب مع غرض المقال:
1- بلدان ذات اقتصاد مرن ومتنوّع كالولايات المتحدة وألمانيا واليابان... والتي تعتمد اقتصاداتها على تصدير العديد من السلع (كالطائرات والمعدات الفضائية والسيارات والمركبات وقطع الغيار والمنتجات الكيميائية والأدوية والإلكترونيات والأجهزة الكهربائية والحبوب والقمح والآلات والمعدات الصناعية...).
2- بلدان ذات اقتصادات متخلّفة، تتخصّص اقتصاداتها في خدمة دول المراكز، وتعتمد وبشكل كبير على تصدير سلعة أو سلعتين أساسيتين وما دون الأربعة سلع. وتنقسم هذه البلدان إلى بلدان استخراجية (السعودية والعراق ونيجيريا...)، وبلدان زراعية (غانا وكينيا وتايلاند...)، وبلدان ذات صناعات بسيطة (بنغلاديش وفيتنام...)، وبلدان أخرى.
نظام التبادل التجاري المعمول به عالمياً بين بلدان صناعية متقدمة وأخرى متخلّفة يفرض عجزاً حتمياً في ميزان المدفوعات عند الأخيرة بفعل تدهور حدود التبادل لصالح بلدان المركز، ليوثّق حالة التبعية الاقتصادية والمالية. إلا أن الدول التي تعتمد على النفط، تستطيع تعديل هذا الميزان بالإيرادات التي يحققها الذهب الأسود. هذا بعكس الدول الأخرى التي ينتهي بها الحال إلى الغرق في مستنقع الديون وفوائدها، وما يجرّه ذلك من تبعية للمراكز.
وفي ما يتعلق بالاقتصاد السعودي بشكل خاص، فهو يعاني، مثله مثل البلدان المتخلفة، من التبادل غير المتكافئ، ولكن الاقتصاد السعودي قد اعتمد تاريخياً على إيرادات النفط لموازنة ميزان المدفوعات. وإذا نقصت هذه الإيرادات لسبب ما فقد يعاني الاقتصاد السعودي من ارتدادات هذا التبادل غير المتكافئ وقد يغرق في مستنقع العجز يوماً ما.

تنويع اقتصادي أم ضرورة وقائية؟
بعيداً من تقلبات أسعار النفط، تواجه الدول التي تعتمد في اقتصادها على الوقود الأحفوري مشكلة مستقبلية، لا بدّ من التوجّه اليوم لتفاديها. فبرغم عدم وجود جدول زمني للتخلّص وبشكل نهائي من استخدام الوقود الأحفوري، إلا أنه وفي ظل البدء بالتخلّص التدريجي والتوجّه العالمي نحو «الحياد الكربوني» والسير فيه خطوات -وإن كانت تلك الخطوات متفاوتة الحجم ما بين بلدان العالم الصناعية- وفي ظل البدء بالاعتماد على الطاقة المستدامة كبديل، وفي ظل البحث الجدي عن بدائل أخرى، فإن «رؤية 2030» السعودية والتنويع الذي تحمله، تصبح ضرورة حتمية وقائية ليس بالنسبة إلى السعودية فقط بل بالنسبة إلى كل البلدان التي يعتمد اقتصادها على الصناعات الاستخراجية إذا أرادت أن تنجو من مصير التبعية والاستدانة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

ما هي حدود التنمية والتنويع الاقتصاديين؟
بشكل عام، إن أول ما يحدّ التنمية الاقتصادية في بلد متخلّف هو التبعية الاقتصادية والمالية للنظام العالمي. وأول ما يكسر هذا الحد هو «فكّ الارتباط» الجزئي أو الكلي بالنظام العالمي وحماية الصناعات الناشئة في هذا البلد من المنافسة الخارجية. فالإمبريالية «لم يعتدل عداؤها الفطري لكل مبادرة أصيلة تتخذها البلاد المتخلفة للتنمية» (بول باران – الاقتصاد السياسي للتنمية). وسبب هذا العداء وفطريته يكمن في «طبيعة النظام» ذاته.
أول ما يحدّ التنمية الاقتصادية في بلد متخلّف هو التبعية للنظام العالمي

فنمو الاقتصاد في المراكز يتطلب وبالضرورة نموّ التخلّف في الأطراف (سمير أمين، التراكم على الصعيد العالمي). وتحقيق تنمية أصيلة في السعودية تتطلب بالضرورة قطيعة مع النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة والتوجه شرقاً نحو الصين وروسيا واستغلال الوضع العالمي لتحرّر اقتصادها من التخصّص الدولي ومن تقسيم العمل الموضوع من قبل النظام العالمي. أما التنويع الاقتصادي المقتصر على السياحة والترفيه والطاقة المتجددة والتكنولوجيا والتعليم والصناعات التحويلية البسيطة فهذا لا يعتبر تنمية أصيلة، بل هي تنويعة اقتصادية وقائية في ظل التبعية لدول المركز.

ماذا لو فك الارتباط؟
تملك السعودية مقوّمات اقتصادية تخوّلها إنجاز استحقاقات تنموية خلال عقد أو عقدين من الزمن بما لا يمكن تحقيقه خلال عشرات العقود بالنسبة إلى الدول الأخرى. ويمكنها من خلال هذا الإنجاز إذا رغبت في لعب دور عربي وإقليمي قيادي. وهذا ما قد يتطلب تضحيات كبيرة. فقد يودي هذا التوجه إلى افتعال انقلابات أو حوادث اغتيال كالتي شهدتها المملكة في عام 1975. إن التحدي الأكبر للمملكة السعودية هي توافر الإرادة السياسية المستقلة واستغلال التغيرات الدولية العاصفة من أجل إنجاز فكّ الارتباط وإعلان التنمية الأصيلة.