شهدت تونس تغيّراتٍ جذريّةً خلال العشريّة الماضية وما زالت ستواجه المزيد منها خلال السنوات المقبلة إذا ظلّ الاتحاد الأوروبي على نفس النهج. بصفتها البلد الأول الذي أطاح بديكتاتوره في بداية 2011 أطلقت تونس سلسلة من الثورات على امتداد شمال أفريقيا وغرب آسيا قادت إلى إعادة تشكيلٍ سياسي ما زالت آثاره مستمرة إلى حدّ الآن. وفيما ما زال يُنظر عموماً إلى تونس كقصّة «نجاح» نسبة إلى «الربيع العربي»، يتبيّن أن الانتقال في الواقع هو أكثر تعقيداً مما يبدو عليه الأمر. إذ تعزّزت الاتجاهات الاقتصادية السائدة وسلطة النخب السياسية والاقتصادية، فيما لم يجنِ الشعب التونسي بعد ثماراً ملموسةً من ثورته. وبينما ظاهرياً تُعدّ تونس بلداً ديمقراطياً، لم تستطع سلسلة من الحكومات «التكنوقراطية» إحداث موازنة بين مصالح النخب التقليدية وعموم الشعب الأقل حظاً.دور الاتحاد الأوروبي وغيره من الفاعلين الدوليّين في هذا التحوّل، أثار جدلاً في ظلّ محاججة البعض بأن التغيير الجاري المموّل غربياً، يهدف في الواقع إلى تقويض طموحات الشعب التونسي في تحقيق الكرامة والخبز والسيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية. فقد أيّد الفاعلون الغربيون والاتحاد الأوروبي بشكل حاسم، إرساء المزيد من نفس السياسات الاقتصاية التي يرى كثيرون أنها خلقت المشاكل في تونس بالمقام الأول.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

لتونس تاريخ طويل وشبكة من الروابط مع الاتحاد الأوروبي، وفرنسا خصوصاً، عندما صارت «محميّة» فرنسية في 1881. وفيما منحت البلاد استقلالها الرسمي في 1956، كان صعباً محو تركة الاستعمار. استمرّت الأنماط الإمبريالية، حيث بُنيت الاقتصادات الكولونيالية من أجل تلبية حاجات السلطة الحاكمة وعلى أساس التبعية الاقتصادية للحاكم الاستعماري السابق.
وفي ظل هذا السياق من الإرث المنظومي والاختلال العميق لموازين القوى، وكذلك ما أحدثه «الربيع العربي» من اضطرابات، اقترح الاتحاد الأوروبي تشكيلة جديدة من الاتفاقيات التجارية مع تونس وجيرانها.
اقترح الاتحاد الأوروبي، أن تصادق معه تونس على اتفاق تبادل حرّ شامل ومعمّق («أليكا» نسبة للتسمية الفرنسية الشائعة)، وقد انطلقت المفاوضات حوله منذ ست سنوات. الأثر الاقتصادي والاجتماعي لهذا الاتفاق قد يكون بليغاً. لذا نقوم بفحص هذه الهواجس بخصوص «أليكا» والتي أُقصيت من المفاوضات الرسمية ومن الحوار الوطني في تونس حول الاتفاق التجاري المقترح.

مسار المفاوضات حول أليكا كان إشكالياً في ثلاث أوجه تحديداً:
- مفاقمة اختلال موازين القوى بين تونس والاتحاد الاوروبي مختلفة بشكل صارخ. يبلغ متوسط دخل الفرد والناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي أضعاف نظيريهما في تونس، فيما تمثّل أوروبا أكبر شريك تجاري للبلد وأحد مُقرضيه الأساسيّين. تمنع التبعية متعددة الأوجه لتونس نحو أوروبا، إلى جانب اللاتماثل البديهي بينهما، إمكانية إجراء أي مفاوضات متوازنة.
- الاتحاد الأوروبي يعتمد سياسة العصا والجزرة التقليدية لإجبار تونس على التوقيع. فقد قدّمت الحكومات التونسية اتفاقية «أليكا» كفرصةٍ لبلوغ مرتبة الشريك المميز لأوروبا، وكخطوة متقدمة على طريق الاندماج في السوق الأوروبية المزدهرة، وكشرّ لا بدّ منه لإعادة الاقتصاد إلى السكّة السليمة عبر تعزيز الاستثمارات الأجنبية المباشرة. في الواقع، إن الحكومات التونسية الأخيرة، المتورّطة في خدمة الدين الخارجي، لم تستطع رؤية خيارات أخرى غير المواصلة في لبرلَة (من ليبرالية) السوق الداخلية، من أجل استمرار الاستفادة من التمويل والمساعدة التقنية من الأوروبيين. علاوة على ذلك، مارس الاتحاد الأوروبي الضغط والابتزاز على تونس من خلال إدراجها على قائمته السوداء للجنان الضريبية في كانون الأول/ديسمبر 2017، وعلى قائمته السوداء لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب في شباط/فيفري 2018. وما يثير القلق هو أن الإدارة التونسية لم تقم بأي دراسة رسمية من أجل ترشيد مقاربتها حيال الاتفاقية المطروحة.
- الاستشارة الإشكالية للمجتمع المدني. فقد اتسمّ التشاور مع المجتمع المدني بكونه إشكالية جديّة وغير شفافة. إذ تم انتقاء المنظمات المستشارة رسمياً بعناية، وقد أثيرت مخاوف بشأن طبيعة نشاطها وتمويلها. كانت النتيجة غير المفاجئة هي أن «ممثلي المجتمع المدني» المختارين على المقاس، قدّموا مطالب ضعيفة ومحدودة إلى الاتحاد الأوروبي، فيما أقصيت من المفاوضات الفئات الاجتماعية المتضررة من اتفاقيات «التجارة الحرّة» (مثل صغار الفلاحين، العاملات الزراعيات، العمال غير النظاميين، صغار ومتوسطي المنتجين، المستهلكين والمستفيدين من الخدمات العمومية).

الآثار المتوقعة لـ«أليكا» يمكن أن تكون مدمّرة لغالبية الشعب التونسي:
- استغلال مخزون تونس من اليد العاملة الرخيصة. الأجور المنخفضة هي الميزة التفاضلية الأساسية لتونس وهي ما تستهدفه اتفاقية «أليكا». فعلى سبيل المثال، الأجر الفلّاحي الأدنى في تونس هو 15.5 دينار لليوم (نحو 5 يورو)، فيما يبلغ في فرنسا 10 يورو للساعة ــ وهكذا فإنّ يوم العمل الفلّاحي في تونس يساوي نصف ساعة من نظيره في فرنسا. من خلال لبرلَة قطاعي الفلاحة والخدمات وتسهيل دخول رأس المال الأوروبي، ستمسح الاتفاقية باستغلال قوة العمل المحلية بأبخس الأثمان. ستشجّع «أليكا» المستثمرين الأوروبيين على نقل الأنشطة كثيفة العمالة إلى تونس من أجل تعظيم أرباحهم، وذلك من خلال استخلاص القيمة التي يخلقها العمال التونسيون المستغلون بكثافة مقابل أجور زهيدة.
- تقويض الغالبية العظمى من الشركات التونسية. فقد دأب الخطاب الرسمي على الترويج لاتفاقية «أليكا» عبر التركيز على «الشركات الصغيرة والمتوسطة (ش.ص.م). تستهدف الاتفاقية بشكل خاص حاجات هذه الشركات التي يتم تقديمها قاطرات للنمو الاقتصادي والابتكار وخلق مواطن الشّغل. إلّا أنه فيما تنتمي 83% من المؤسسات الأوروبية إلى تلك الفئة، فإنها لا تتعدّى في تونس نسبة الـ3%.
- الشركات الصغيرة (ش. ص): تفكّك متوقع. في تونس تمثّل الشركات الصغرى نحو 95% من الشركات وتعدّ الفاعل الاقتصادي الأساسي فيها. ومن غير المتوقع أن تنمو هذه الشركات في ظل «أليكا» بل الأرجح هو أنها ستتفكك وتختفي لصالح الشركات الأكبر. حالياً تنشط هذه المؤسّسات في سوق محمية وتوفّر دخلاً لمئات آلاف العائلات، لكنها تظلّ هشّة وذات موارد محدودة جداً. لن تصمد هذه الشركات في وجه تسونامي منتجات أوروبا واجتياح رؤوس أموالها ولا سيما من دون سياسات مصمّمة من أجل حمايتها وتقويتها.
- الشركات الصغيرة والمتوسطة (ش. ص. م): الإنتاج والتصدير نحو أوروبا. بالنسبة للقلّة القليلة من الشركات التونسية الكبيرة، تراهن اتفاقية «أليكا» على نجاحها في خلق مواطن شغل إثر اندماجها في نظام «التجارة الحرّة» الأوروبي. اجتمعت المصالح المتداخلة بين الأوليغارشيا الريعية التونسية وأصحاب السلطة السياسية والفاعلين الغربيين في «التجارة الحرة»، على الضغط من أجل اتفاقية تجارية ستوجه الاقتصاد التونسي نحو دعم الشركات المصدِّرة حصراً. ستعزّز الاتفاقية التبعية الراهنة للنظام الاقتصادي تجاه تلك المصالح الضيقة من خلال سياسات عامة تخدم أكثر فأكثر قطاعات لا تقدّم سوى قيمة مضافة جدّ ضعيفة للاقتصاد المحلي، لكنها تخلق في المقابل أرياعاً للشركات المصدرةوأرباحاً ضخمة للشركات الأوروبية.
حان الوقت كي تفكّر تونس بعمق، ولكي تجري تقييماً موضوعياً لخمسة وستين عاماً من الاستقلال ومن المبادلات الاقتصادية مع أوروبا


- برنامج التأهيل: تعميق اللامساواة وتركيز رأس المال. كثيراً ما يقع تقديم برنامج التأهيل على أنه المكسب الرئيسي لتونس الذي يستحق كل التضحيات. ويقع تعريفه كمسار مستمرّ يهدف إلى تحضير وتأهيل الشركات ومحيطها لمتطلبات المنافسة الدولية. بيد أن سجلّ برنامج التأهيل السابق (الذي بدأ في 1995 مع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي) لم يبرهن على ذلك. إذ أقصى كل الشركات الصغرى من مسار التأهيل رغم محوريتها بالنسبة للاقتصاد التونسي. فيما وجّه الاستثمار نحو التصدير والخدمات، ما أدّى بدوره إلى سحب التركيز الاقتصادي بعيداً من القطاعات المنتجة. فشل البرنامج في تجاوز مستوى التعاقد من الباطن (عقود المناولة) في السلسلة العالمية للقيمة، بل عوضاً عن ذلك، كرّس التبادل غير المتكافئ لصالح الاتحاد الأوروبي وأبقى على تونس في موقع المهيمَن عليه داخل النظام الرأسمالي العالمي. سيتبع برنامج التأهيل الجديد بلا شكّ نفس المنطق والمنهج.

حان الوقت لتقييم المبادلات الاقتصادية مع أوروبا
حان الوقت كي تفكّر تونس بعمق، ولكي تجري تقييماً موضوعياً لخمسة وستين عاماً من الاستقلال ومن المبادلات الاقتصادية مع أوروبا. لم يعد ممكناً الاستمرار في التعامي عن واقع الاقتصاد التونسي، عن طبيعة علاقاته مع الاتحاد الأوروبي والصلات المترابطة بين بنية السلطة السياسية المحلية والتوجّه الممنهج نحو «التبادل الحرّ». كبلدٍ انعتق حديثاً من ربقة الديكتاتورية ويبحث الآن عن طريقة جديدة للتنمية، يكتسي سؤال النهج الاقتصادي الأصلح، أهمية جوهرية. مطلوب مخطط اقتصادي ومنوال تنمية جديدين من أجل وضع البلاد على السكة نحو تنمية مستدامة ومنصفة. استراتيجية كهذه يجب أن تناقش وتطور ويقع اختيارها بشكل ديمقراطي من قبل الشعب التونسي.
يخضع نهج الاتحاد الأوروبي لمصالحه التجارية ـــ صُمّمت اتفاقية «أليكا» من أجل إدماج الشركات التونسية الأكثر ربحية في السوق الأوروبية الحرّة ومن أجل تكييف السوق التونسية لتزويد الاتحاد الأوروبي. يناقض هذان الهدفان أغلب المصالح التونسية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وبيئياً. سيكون من السذاجة بمكان توقّع ألا يكون لتعميق اللامساواة وترسيخ التبعية الاقتصادية الناتجة عن «أليكا» آثاراً سياسية، ولذلك من النباهة استحضار أن الشعارات الرئيسية للانتفاضة التونسية نادت بالعدالة الاجتماعية وإنهاء امتيازات الأوليغارشية الحاكمة.
في هذا السياق، من الأهمية القصوى لناشطي منظمات المجتمع المدني على ضفتي البحر المتوسط أن:
- يبرزوا ويعزّزوا أصوات الفاعلين والشرائح الاجتماعية التي ستتأثّر سلباً باتفاقية «أليكا» (صغار منتجي الغذاء، العمال غير النظاميين، العمال الفقراء...).
- التأكّد من أن القضايا الرئيسية تُثار من قبل الفاعلين أنفسهم تجاه الحكومات، وداخل تمثيليّات الشعب العامل.
- إزالة الغموض عن العقيدة المسيطرة لـ«التجارة الحرّة» وإظهار كيف تعزّز شروط التجارة غير العادلة لتونس، حابسة البلاد في دائرة مستعصية من الديون المتراكمة وما يصحبها من شروط قاسية.

* هذا النصّ هو خلاصة دراسة أعدها كل من ليلى الرياحي وحمزة حموشان بعنوان «التبعية الشاملة والمعمقّة: كيف يمكن لاتفاقية تجارية مع الاتحاد الأوروبي تدمير الاقتصاد التونسي». نشرت هذه الدراسة في تموز 2021 على موقع الشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء الديون غير المشروعة،وهي من منشورات المعهد الدولي (TNI.org)، وشبكة شمال أفريقيا للسيادة الغذائية، والمنصّة التونسية للبدائل.




تابع «رأس المال» على إنستاغرام