في نهاية 2019 كانت المصارف تغرق في الجحيم. كانت أموالها في الخارج مستنزفة ما دفعها إلى فرض قيود قاسية على سحب الودائع ومنع التحويل إلى الخارج حتى للحاجات الضرورية. لكن ثمة من أنقذها من الورطة: حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على حساب الأموال التي يُفترض أن تنفَق لتمويل استيراد السلع الأساسية والضرورية. ففي الأشهر الأخيرة من عام 2019، أقرضها من موجوداته الخارجية، نحو 3.5 مليارات دولار، وفي النصف الأول من السنة الجارية نحو 5.5 مليارات دولار. سلوك المراباة طغى دائماً على السياسات النقدية، وهذا الأمر ظهر بوضوح في صيف 2016 حين قرّر سلامة مواجهة عجز ميزان المدفوعات بسلسلة هندسات مالية أدّت إلى تشابك ميزانيته مع ميزانيات المصارف والمالية العامة بشكل عميق تجعله سلوكاً مريباً. أصبحت هذه الميزانيات متشابكة كأحجار الدومينو. سقوط أحدها يعني سقوط الكل. بواسطة الهندسات، دفع المصارف إلى إيداع أموال الزبائن لديه. 89 مليار دولار منها تحديداً رغم أن موجوداته الخارجية لم تكن تغطي سوى 18.9% من الودائع وتوظيفات المصارف لدى مصرف لبنان في نهاية عام 2018. وواصل الاكتتاب بسندات الخزينة الصادرة عن وزارة المال ليرفع حصّته في الدين السيادي إلى 50717 مليار ليرة في نهاية 2019 مقارنة مع 24 ألف مليار ليرة في نهاية 2015، وعمد إلى تنفيذ عمليات استبدال للسندات بالليرة اللبنانية بسندات يوروبوندز باع قسماً كبيراً منها في السوق بأقل من قيمتها الاسمية... وعندما اقترب سقوط الحجر الأول، أي تخلّف الدولة عن سداد استحقاقات سندات اليوروبوندز، أبدى استعداده للتضحية بقسم من موجوداته الخارجية. ومع تخلّف الدولة عن السداد، عمد إلى تبديد المزيد لتصبح قيمة القروض التي منحها للمصارف من موجوداته الخارجية 9 مليارات دولار كما ورد في تقرير صادر عن لجنة تقصّي الحقائق التي تدخّلت لاحقاً لإعادة احتساب الخسائر وتوزيعها.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

لا يمكن فهم الهدف من تشابك الميزانيات الثلاث إلا في إطار خطّة ممنهجة لتشكيل حائط عزل أمام التدقيق بالأموال المنفقة. قبل الإفلاس، تمكّن المدير العام للمالية العامة ألان بيفاني من إعادة تكوين الحسابات العامة للعقدين والنصف الأخيرين، لكن التشابك الحاصل في الميزانيات هو الذي يمنع اليوم لجوء قوى السلطة إلى التدقيق الجنائي بميزانيات مصرف لبنان. سينكشف الكثير إذا حصل التدقيق الجنائي.
سلامة ضحّى بكمية وافرة من الاحتياطات بالدولار، وكان على استعداد للتضحية بأكثر من ذلك حتى لا ينكشف المستور. حتى لا يقع الحجر الأول. المقامر لا يغيّر عاداته. هو اليوم يقامر بكلّ أوراقه الخاسرة لإطفاء الخسائر بعيداً من التدقيق. فبنتيجة التشابك في الميزانيات، لا يُسمح للمودعين سحب أموالهم المحجوزة (المبدّدة) لدى مصرف لبنان، وليس ممكناً إيجاد حلول لشطب الخسائر من دون موافقته على شطب خسائر مصرف لبنان وتالياً خسائر المصارف والودائع، فضلاً عن السرية التي تحيط بميزانياته. الخيار الوحيد المتبقي هو اكتواء اللبنانيين بنار التضخّم لإطفاء الخسائر. سلامة، مارس منفرداً حلول الهندسات المالية وتشابك الميزانيات، وهو اليوم يمارس خطّته التي ستحرق الأخضر واليابس: المداخيل تتبخّر ولبنان على أبواب تضخّم مفرط نادراً ما حصل في التاريخ. سلامة بما يرمز إليه في بنية النظام لا يأبه بأيّ ثمن سيتم إطفاء الخسائر.