ربما غاب عن بال كثيرين ممن يتطرّقون يومياً إلى استعادة الأموال المنهوبة، أن مجلس النواب أقرّ في تموز 1992 المرسوم 2537 الذي ينشئ الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة وسط بيروت «سوليدير»، وسمح لها بتملّك أراض أصحاب الحقوق في وسط بيروت وأملاكهم بذريعة تنفيذ أشغال البنية التحتية وترتيب المنطقة التي تقع ضمنها وإعمارها. كذلك، سمح القانون لهذه الشركة بردم جزء من البحر مقابل ما سمّي الوسط التجاري لمدينة بيروت، بموجب اتفاق بين الشركة ومجلس الإنماء والإعمار يصدر بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء. وأعطاها مجلس النواب صلاحيات واسعة للقيام بهذا الأمر، من أبرزها البند الخامس من المادة الثالثة التي تحدّد موضوع الشركة وتنصّ على الآتي: «القيام بجميع العمليات والأعمال الضرورية التي يتطلبها تنفيذ موضوع الشركة».بنتيجة هذا القانون، قامت الشركة بإخراج الموجودين في الوسط، سواء كانوا من أصحاب الحقوق أم من المهجرين. لجان التخمين قدّرت قيمة 1630 عقاراً تعود لأصحاب الحقوق بنحو 1170 مليون دولار على أساس 1532 دولاراً لمتر الأرض المربع، و100دولار لسعر المتر المبني. كذلك حدد مبلغ 7000 دولار لقاء إخلاء كل عائلة من المهجرين، ما رفع عدد العائلات المهجّرة المسجلة في المنطقة من 5000 إلى 18000 عائلة، وارتفعت قيمة التعويض إلى 12000 دولاراً. في المحصلة، أنفقت الشركة 285 مليون دولار على عملية الإخلاء بدلاً من 37 مليون دولار لحظتها لهذه العملية. «غالبية هذا المبلغ ذهبت إلى جيوب السماسرة من كوادر الأحزاب وسوليدير»، بحسب تجمّع أصحاب الحقوق.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في أيار 1994 دعت الشركة إلى عقد جمعية عمومية من أجل زيادة رأس المال من المقدمات النقدية بقيمة 650 مليون دولار. حضر الجلسة المساهمون النقديون، فيما غابت غالبية المساهمين العينيين الذين يشكّلون 63% من رأس مال الشركة. وخلصت الجلسة إلى إبراء ذمة هيئة التأسيس وانتخاب مجلس إدارة ترأسه ناصر الشماع وتأسيس الشركة رسمياً برأسمال 1820 مليون دولار مؤلفاً من 182 مليون سهم بقيمة 10 دولارات للسهم الواحد.
بعدها بدأت عمليات الهدم. خلال سنتين هدمت الشركة 1000 مبنى من دون أدلّة دامغة على وجود حاجة إلى هدمها كلّها. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بدأت أكبر عملية إنفاق شهدتها شركة في لبنان. خلال ثلاث سنوات، أنفقت الشركة 1018 مليون دولار، ورغم بيع مساحات واسعة من الأراضي، إلا أنها في أول 13 سنة لم توزّع الشركة أنصبة أرباح إلا ستّ مرات، بمعدل 20 سنتاً للسهم الواحد. عمليات البيع كانت بقيمة 5250 دولاراً للمتر المربع، أي أكثر بـ3.5 مرات من سعر تخمين الأراضي.
أما عملية ردم الأراضي فقد جاءت برعاية سياسية سخيّة. فبموجب مراسيم صادرة عن مجلس الوزراء، ارتفعت مساحة الاراضي المردومة من 240 ألف متر مربع إلى 780 ألف متر مربع. ونالت الشركة الكثير من الامتيازات التي حوّلتها إلى دويلة ضمن دولة، قبل أن تتوسع إلى الخارج خلافاً لقانون إنشائها.
خلال السنوات الأخيرة لم تسجّل سوليدير سوى الخسائر والديون. في 2017 خسرت 122 مليون دولار، وفي 2018 خسرت 114 مليوناً. أما ديونها فكانت 849.3 مليوناً في 2017، وانخفضت إلى 750.7 مليوناً في 2018.
في الأشهر الستة الأولى من عام 2019، باعت الشركة أراضي بقيمة 151 مليون دولار، وأجرت تسويات مع دائنين متعثّرين كبّدتها ملايين من الدولارات أيضاً. رغم ذلك، لا تزال غارقة في الديون. بحسب التقرير الصادر عن مدقق المراقبة «ديلويت أند تاتش»، فإنه تترتب على الشركة في نهاية حزيران 2019 التزامات بقيمة 501 مليون دولار، من ضمنها قروض مصرفية بقيمة 214.6 مليون دولار، وتسهيلات مصرفية قصيرة الأجل بقيمة 64.3 مليون دولار، وسندات دين بقيمة 114.6 مليون دولار، وأنصبة أرباح غير موزّعة بقيمة 59 مليون دولار، وإيرادات متنوعة بقيمة 48.7 مليون دولار. كلفة الأراضي التي باعتها سوليدير تبلغ 67.7 مليون دولار (الكلفة تعني سعر استملاك الأراضي من أصحاب الحقوق). إيرادات تأجير الأملاك تراجعت من 29.5 مليون دولار إلى 27.2 مليون دولار، وهذا التراجع اسمي ــ نظري لأن عدداً كبيراً من المستأجرين يرفضون التسديد. أما نصيب الشركة من توسّعها محلياً وفي الخارج، فهو خسارة بخسارة.
هذا هو نموذج شراكة رأس المال مع السلطة. هنا مالٌ منهوب.