ما هو توصيفك للأزمة الحالية. هل تعتقد أن النموذج الاقتصادي القائم انتهى وهل نحن فعلاً بحاجة لتغييره، وما هو البديل؟
قبل كلّ شيء، هي أزمة سيولة ناتجة من ارتفاع الفوائد الحقيقية ومن إحجام مصرف لبنان عن التدخّل في السوق بيعاً للدولار. هذه المشكلة تزامنت مع مشكلتَين أساسيتَين: مشكلة بنيوية تكمن في عجز الحساب الجاري والعجز المالي المتراكم الذي من أساس تكوينه الفوائد وخدمة الدين، والمشكلة الثانية هي الطبيعة الاحتكارية للاقتصاد الوطني. لا أتصوّر أننا بحاجة لتغيير النموذج، بل بحاجة لتطويره؛ هو نموذج قائم على احتكارات، وعلى أسواق غير محرّرة، بالإضافة إلى أنه قائم على الاستدانة المفرطة إلى جانب إنتاج ضعيف. لذا، إذا أردنا أن نكون عملانيين، يجب البناء على هذا النموذج بما فيه من عناصر يمكن استعمالها، للانتقال إلى نموذج أكثر ليبرالية وأكثر انفتاحاً، بشرط أن يكون فيه موقع أساسي للحماية الاجتماعية في هذه المرحلة الصعبة. نحتاج إلى الحماية الاجتماعية لتترافق مع الإجراءات الصعبة التي نحن بصدد اتّخاذها وليس هناك مجال إلّا للقيام بها.

(مروان طحطح)


المصارف تقول إنها أزمة ذات أصل سياسي (فساد سياسي)، وهناك رأي آخر يقول إن الأزمة مالية ونقدية، أم هي خليط من الاثنتين؟
منذ 17 تشرين الأول صار هناك بُعد سياسيّ للأزمة وضغط كبير على الاقتصاد ناتج من التدهور السياسي. ما قبل هذه الفترة، لم يكن هناك بُعدٌ سياسي، بل كانت عبارة عن أزمة سياسة نقدية مرتبطة بأزمة السياسة المالية. فقد شهدنا في السنوات الثلاثين الماضية ممارسات غير سليمة، وخصوصاً لجهة السياسة النقدية التي كان من أبرز معالمها شهادات الإيداع. سمحت هذه الشهادات التي أصدرها مصرف لبنان بإيداع الودائع المصرفية لديه بفائدة أعلى من فائدة السوق، فيما يكتتب المصرف المركزي بسندات الخزينة ويقبض فائدة أقل من تلك التي يسدّدها. خلص هذا المسار إلى الآتي: بدلاً من أن تستثمر المصارف في السندات السيادية بفوائد أقلّ من تلك المدفوعة على شهادات الإيداع، بات مصرف لبنان يستثمر في هذه السندات، فيما المصارف تودع أموالها في مصرف لبنان. ورغم أن هذه العمليات كانت مربحة للمصارف، إلّا أننا رأينا حدود هذه اللعبة، حيث تراكمت خسائر البنك المركزي إلى مستويات غير مقبولة. واليوم نرى أن هناك تضارباً واضحاً بين ما يقوم به مصرف لبنان وبين ما تريده المصارف. كلّ منهما يحاول أن يعطي مفاهيم مختلفة ولم يعد مفهومهم موحّداً للعمل المالي. المصارف أصبحت، للأسف، فروعاً للمصرف المركزي، وهو بدلاً من أن يكون مشرفاً ومنظّماً للقطاع المصرفي، أصبح مساهماً وشريكاً فيه.

حتى الآن كلّ الإجراءات المتّخذة هي إجراءات مالية ونقدية مؤقتة من دون أيّ أفق أو رؤية شاملة وواضحة.
الإجراءات النقدية والمالية التي اتُّخذت قليلة وغير كافية. تتمثّل هذه الإجراءات النقدية بالتعميم الذي صدر أخيراً عن مصرف لبنان لخفض الفائدة وهو غير كافٍ بالشكل الذي صدر به. كذلك ليست هناك آلية واضحة كيف ينعكس انخفاض الفوائد على الحسابات المدينة (القروض)، وعلى ديون الدولة لدى مصرف لبنان ولدى المستثمرين. ما نراه اليوم هو تخبّط، فيما الوضع يتطلّب أكثر من تعميم وأكثر من إجراء أو تدبير، بل يجب أن تكون هناك حكومة تجتمع بشكل متواصل وأن ترسم حلولاً جوهرية؛ حالياً، المؤسّسات الدستوريّة لا تعمل، والحكومة لا تجتمع فضلاً عن كونها مستقيلة، وبرأيي ليس هناك إلا رئاسة الجمهورية التي تعمل بشكل طبيعي وهي تحاول قدر الإمكان التعويض عن السلطات التي تمتنع عن ممارسة دورها. بعبارة أخرى، لم يعد بإمكاننا السير بالمنطق السائد سابقاً. عندما كنا نقول يجب خفض الفائدة كان الجواب يأتي بأن الودائع ستهرب، وعندما تحدّثنا عن ضرورة خفض العجز أتى الجواب بأنّ الموازنة منجزة. يجب نسف كلّ المنطق السائد قبل 17 تشرين. الحقيقة يجب أن تُقال اليوم، ويجب أن يكون هناك تراجع متدرّج عن الامتيازات، وهذا أمر كان يمكن القيام به في الفترة الماضية، لكن اليوم بما أن التصحيح قهريّ فالمطلوب الذهاب سريعاً نحو التصحيح المنظّم، وهو في أي حال أفضل من الفوضى التي ستعمّ في ظلّ تصحيح فوضويّ.

هل تعتقد أن مصرف لبنان فعلاً ليست لديه الصلاحية لفرض قيود (كابيتال كونترول) أم أنه يراوغ؟

نبذة

حائز على دكتوراه في العلوم الاقتصادية، وماجستير في الاقتصاد الدولي، وماجستير في إدارة الأعمال، وشهادة تخصص في الإدارة المالية للشركات، وكفاءة في الإدارة الصناعية، وإجازة في إدارة الأعمال
■ عمل في القطاع المصرفي والاستشاري والأكاديمي والاتّصالات، في لبنان وفرنسا ودول الخليج العربي
■ يعمل حالياً مستشاراً اقتصاديّاً وخبيراً ماليّاً وباحثاً في السياستَين النقدية والمالية

في ما يتعلّق بمصرف لبنان، لديه سلطات كبيرة يمكنه ممارستها، لكنّه أسير اللعبة التي سار فيها. فهو رسم خطاً بيانيّاً عمره ثلاثين سنة، وحدّد طوال هذه الفترة سياسات بعضها جيد وبعضها سيئ. مصرف لبنان التزم سياسة سعر الصرف الثابت التي تحفظ قيمة أموال اللبنانيين الذين يتقاضون مداخيلهم بالليرة وهم يشكّلون الغالبية، إلّا أنه في المقابل نفّذ سياسات كثيرة تتعارض مع هذه الأهداف. فعلى سبيل المثال، قرّر مصرف لبنان، أخيراً، خفض الفوائد، لكن ثمة من سيقول له لماذا كنت ترفع أسعار الفائدة في السابق؟ وإذا قرّر أن يذهب باتجاه إلغاء شهادات الإيداع، علماً بأنها بدعة لا يجب أن تكون موجودة إلّا بحالات قليلة، سيُسأل لماذا كانت تصدر هذه الشهادات؟ والسؤال نفسه ينطبق على القروض المدعومة التي لم يكن لديها آلية صحيحة، لأن هذه النوع من القروض في اقتصاد صغير ونظام سعر صرف ثابت لا مفاعيل لديها، لأن المفعول الوحيد على الناتج المحلي يأتي من السياسات الماليّة الحكوميّة، فضلاً عن أن ثمة من سيسأل مصرف لبنان لماذا أعطى الأثرياء حّق الاستفادة من القروض المدعومة. مفاعيل السياسات النقدية كانت سلبية في هذا المجال. وإذا تطرّقنا إلى مسألة السيولة، فإنّ مصرف لبنان يقول اليوم إنه لا علاقة له بتأمين السيولة، فيما هو كان يعمل على تأمين السيولة على فترة طويلة. أتصوّر أن مصرف لبنان أصبح أسير هذه اللعبة وميكانيكياتها ويصعب عليه الخروج منها بسهولة.

ما مدى الحاجة إلى إجراء إعادة هيكلة للدين العام؟ كيف يجب أن تتم إعادة الهيكلة لتكون عادلة في توزيع الخسائر؟ من يجب أن تطال وبأيّ أدوات؟
إعادة هيكلة الدين العام يجب أن تكون أولاً لمصلحة الخزينة. تراكم الديون والفوائد المرتفعة وخسائر مصرف لبنان هي التي أدّت بشكل كبير إلى تراكم الدين العام. ورغم سوء إدارة التحصيل الضريبي، والتهرّب الضريبي، ورغم كلّ الهدر والنفقات غير المجدية وسوء إدارة النفقات، كان لدينا سنة بعد سنة فائض أوليّ صغير أو عجز بسيط. في السنوات الـ 25 الأخيرة كان لدينا فائض أولي يبلغ قبل احتساب الفوائد 5.2 مليار دولار، لكنّنا رغم ذلك دفعنا 85 مليار دولار فوائد وستبلغ قيمة الدين العام ٧٨ مليار دولار. هذه كلفة كبيرة. يجب أن تكون إعادة الهيكلة لمصلحة الخزينة، وثانياً لمصلحة المقترضين مع حماية المودعين، وهذا الأمر يتم عبر خفض الفوائد بشكل كبير من دون المسّ بأساس رأس المال وإبقاء المسألة ضمن الفوائد فقط.

ما هي فرضيات النموّ أو الانكماش الاقتصادي خلال السنوات المقبلة في ظلّ الأزمة الراهنة؟
احتمالات الانكماش أكبر بكثير من فرضيات النمو. الأمر كلّه مربوط بالإصلاحات البنيوية والهيكلية التي يمكن القيام بها. كلّما أسرعنا في ضبط العجز المالي وتسريع تحرير الأسواق وخفض الفوائد، وكلّما أسرعنا في تخلّي الحكومة عن نشاطات لا يجب أن تقوم بها، وكلّما أمنّا حماية اجتماعية منطقية (لا يمكن الإكمال بالكلفة الحالية) يمكن العبور إلى مرحلة أخرى، ولا يمكن الإكمال إلّا بتأمين التغطية الصحيّة الشاملة ودعم التعليم (بما فيه الخاص) لكلّ الناس. يمكن أن يكون الإنفاق كبيراً، لكن يجب أن يكون بعائد اجتماعي في مقابل التشدّد في العجز المالي وضبط ميزانية مصرف لبنان وفتح الأسواق وتحريرها لبناء قطاعات منتجة بشكل سريع.



2250 ليرة سعر الصرف الفعلي
سعر الصرف الحقيقي الفعلي كما يحسبه صندوق النقد الدولي هو متضخّم 50%. بالاستناد إلى احتساب ثمن المنتجات والسلع في لبنان ومقارنتها مع أسعار السلع والمنتجات المماثلة لدى الدول التي لدينا تبادلات تجارية معها بحسب وزن كلّ دولة مع إزالة نسب التضخم، يتبيّن أن سعر الصرف الحقيقي الفعلي هو بحدود 2250 ليرة لكلّ دولار.
وإذا كرّسنا بشكل مباغت سعر الصرف الحقيقي، وحوّلناه إلى سعر الصرف الرسمي، فهذا يعني أننا نقتطع ثلث مداخيل اللبنانيين، وثلث الودائع بالليرة اللبنانية وسنزيد الديون على الأفراد والشركات والدولة بنسبة 50% في ما يتعلّق بالاستدانة بالدولار. وكما نعلم فإن القطاع الخاص لديه 70% ديون أكثرها بالدولار. لذلك، أعتقد أن ترك سعر الصرف عائم وحرّ سيقرب السعر المعلن من مصرف لبنان من سعر الصرف الحقيقي، وهذا سيكون له أثر سيئ على قسم كبير من اللبنانيين، لذلك الحفاظ على سعر الصرف الثابت هو أمر أساسي في المرحلة الحالية.
ثبات سعر الصرف لا يعني أن السعر يجب أن يكون محدّداً؛ من قال إن سعر الصرف الوسطي يجب أن يكون 1507.5 ليرة مقابل كل دولار، ولماذا لا يكون 1600 أو 1400 ليرة؟ لذا، المنطق أن يثبّت سعر الصرف ضمن هدف مماثل للأهداف التي تحدّد أسعار الفائدة بشكل واضح. أعتقد أن المعدل المقبول لامتصاص الصدمات يتراوح بين 1500 و1700 ليرة مقابل الدولار. ربما يكون هذا هو الهامش الذي يجب أن يتحرّك فيه سعر الصرف. فمن ناحية يخفّف على الخزينة دفع الرواتب والأجور، ومن ناحية ثانية يحافظ على القدرة الشرائية ويجب أن يستمرّ طالما لدينا القدرة، لأن المفاعيل الاجتماعية ستكون أكبر من كلفة الحفاظ على السعر الحالي.