في الوقت الذي تسعى فيه الحكومة إلى تخفيض عجز الموازنة، بعد أن أدركت متأخِّرة خطورة انزلاق الوضع المالي إلى عنق الزجاجة، وذلك عن طريق التقشّف بخفض النفقات وزيادة الإيرادات، فعمدت إلى خفض الإنفاق الاستثماري واستحداث وزيادة ضرائب جديدة، ومنها الضريبة التصاعدية على معاشات المتقاعدين العسكريين والمدنيين، واقتطاع نسبة معيّنة من معاشات المتقاعدين العسكريين كمساهمة في نفقات الطبابة والاستشفاء، وتخفيض مساهمة الدولة في موازنة الجامعة اللبنانية وصندوق تعاضد أساتذتها، وكذلك بالنسبة إلى القضاء. في المقابل، عمدت الحكومة إلى إعفاء فئات واسعة من المكلّفين بالضرائب والرسوم من غرامات التحقّق والتحصيل المفروضة عليهم بنتيجة مخالفتهم القوانين والأنظمة الضريبية، وصلت إلى حدّ الإعفاء من 85% و100% من الغرامات و50% من الضرائب في بعض الحالات. وهي تستعدّ لإحالة قانون حول التسوية الضريبية لجميع المكلّفين إلى مجلس النواب.في ظلّ هذه المَعمَعة من النقاشات حول موازنة العام 2019، وما يرافقها من احتجاجات نتيجة استشعار فئات شعبية ومهنية واسعة بسعي الحكومة إلى زيادة العبء الضريبي عليها، وتحت شعار زيادة معدّل الضريبة على الفوائد من 7% إلى 10%، تلجأ الحكومة إلى إعفاء سندات الدَّيْن بالعملة الأجنبية من هذه الضريبة، من دون أي مُبرِّر مالي أو اقتصادي. وإليكم التفاصيل :
بموجب المادة 51 من قانون موازنة العام 2003 ( القانون رقم 497 تاريخ 30/01/2003)، تمّ تعديل الضريبة على دخل رؤوس الأموال المنقولة (ما يُسمّى ضريبة الباب الثالث)، وتمّ فرض هذه الضريبة بمعدّل 5% على فوائد وعائدات وإيرادات الحسابات الدَّائنة المفتوحة لدى المصارف وحسابات التوفير والودائع وسندات الخزينة اللبنانية. وإذا كانت هذه الفوائد والعائدات داخلة ضمن أرباح مؤسّسات مصرفية أو مالية أو تجارية بموجب المادتين 8 و70 من قانون ضريبة الدخل، فإنها تبقى خاضعة لضريبة الـ5% وتنزّل قيمة الضريبة المُسدّدة عنها من الضريبة على أرباح ممارسة المهنة.
وبذلك يكون المشترع، حتى إصدار القانون 64/2017، قد تجنّب الازدواج الضريبي، إذ إن المؤسّسات (بما فيها المصارف) التي تحقّق فوائد وعائدات وإيرادات من رؤوس الأموال المنقولة (بما فيها سندات الخزينة)، وتحقّق في الوقت نفسه أرباحاً من ممارسة نشاطها الاقتصادي، تخضع لضريبة واحدة فقط هي الضريبة على الأرباح التجارية أو الصناعية أو المهنية، وتكون ضريبة الـ5% بمثابة دفعات شهرية على حساب الضريبة الأولى.
تسعى الحكومة إلى إمرار تعديل في مشروع قانون موازنة 2019 يعفي سندات الخزينة بالعملات الأجنبية من الضريبة


أمّا بموجب القانون الرقم 64 تاريخ 20/10/2017، فقد رفع معدّل الضريبة من 5% إلى 7%، واعتبرت قيمة هذه الضريبة المُسدّدة عبئاً ينزّل من إيرادات المؤسّسات التي تحقّق فوائد وعائدات وإيرادات من رؤوس الأموال المنقولة الموظّفة. وأخضع الربح الناتج عن مقابلة الإيرادات الكاملة، بما فيها الفوائد وأعباء التشغيل، للضريبة على الأرباح بمعدّل 17%، ويكون المشترع قد أخضع فوائد وعائدات وأرباح رؤوس الأموال المنقولة (بما فيها إيرادات وفوائد سندات الخزينة) لضريبتين في السنة المالية نفسها، لكن هذا الإخضاع هو إخضاع جزئي وليس إخضاعاً كاملاً، لأن قسماً من هذه الفوائد سيغطّي قسماً من أعباء تشغيل المؤسّسة، ولن يعتبر أرباحاً خاضعة لضريبة الباب الأوّل، والقسم الآخر هو الذي يخضع للازدواج الضريبي.
لقد كان واضحاً ومؤكّداً، وبصراحة النصّ القانوني الحرفي الوارد في قانون موازنة العام 2003 أو في القانون الرقم 64/2017، أن «فوائد وإيرادات سندات الخزينة اللبنانية» كافّة خاضعة للضريبة، من دون أي تمييز بين العملات التي تصدر بها هذه السندات. وتأكيداً لذلك، فقد ورد في البند (5) من المادة 51 من قانون موازنة العام 2003 النصّ الحرفي التالي: «خلافاً لأي نصّ آخر تخضع لأحكام قانون ضريبة الدخل (المرسوم الاشتراعي رقم 144/59 وتعديلاته) ولضريبة الباب الثالث منه وبمعدّل خمسة بالمئة (5%)... 5- فوائد وإيرادات سندات الخزينة اللبنانية». وورد النصّ الحرفي نفسه في المادة 17 من القانون الرقم 64/2017 (ولم يتعدّل إلّا معدّل الضريبة).
وبصراحة هذين النصّين المذكورين أعلاه، فإن فوائد وإيرادات سندات الخزينة، سواء كانت بالعملة المحلّية (الليرة اللبنانية) أو بالعملة الأجنبية (الدولار أو اليورو)، خاضعة جميعها لضريبة الباب الثالث وبمعدّل 7%.
لقد جرى في السابق الالتفاف في تطبيق هذه النصوص الصريحة، إذ صدر في العام 2004 القرار 1/665 عن وزير المال، آنذاك، الذي ينطوي على إعفاء غير قانوني لسندات الخزينة بالعملات الأجنبية من موجب تأدية الضريبة، واعتبر القرار أن الكلفة الإجمالية للفائدة التي تسدّدها الدولة على هذه السندات تتضمّن سعر الفائدة بالإضافة إلى قيمة الضريبة، بمعنى أن المكتتبين في هذه السندات سيتقاضون علاوة على الفائدة قيمة الضريبة الواجبة عليهم.
بدلاً من فرض الالتزام بموجب تأدية هذه الضريبة، تسعى الحكومة الحالية إلى تمرير تعديل في مشروع قانون موازنة العام 2019، يهدف إلى «قوننة» هذا الالتفاف، إذ نصّت المادة الثلاثون من مشروع القانون حرفياً على ما يلي: «خلافاً لأي نصّ آخر، تخضع لأحكام قانون ضريبة الدخل (المرسوم الاشتراعي رقم 144/59 وتعديلاته) ولضريبة الباب الثالث منه بمعدل عشرة بالمئة (10%): ... 5- فوائد وإيرادات سندات الخزينة بالعملة اللبنانية»، أي تمّ استبدال عبارة «سندات الخزينة اللبنانية» الواردة في النصّين السابقين بعبارة «سندات الخزينة بالعملة اللبنانية»، وهذا التعديل يعني صراحة أن سندات الخزينة بالعملة اللبنانية هي وحدها تخضع للضريبة بمعدّل 10%، أمّا سندات الخزينة بالعملة الأجنبية أصبحت مُعفاة من هذه الضريبة اعتباراً من اليوم التالي لتاريخ نشر قانون موازنة العام 2019 ولمدّة ثلاث سنوات.
وفقاً لفذلكة موازنة العام 2019 حول وضعية الدَّيْن العام (صفحة 14)، بلغ إجمالي الدَّيْن العام في نهاية شهر آذار لعام 2019 حوالى 129 ألف و982 مليار ليرة لبنانية، أي ما يعادل نحو 86.22 مليار دولار أميركي، ويتوزّع اجمالي الدَّيْن العام ما بين دَيْن بالعملة المحلّية (سندات خزينة بالليرة) ودَيْن بالعملة الأجنبية (معظمه سندات خزينة بالدولار). وقد بلغ الدَّيْن العام بالعملة المحلّية نحو 79 ألف و65 مليار ليرة، أي ما يعادل 52.45 مليار دولار أميركي ونسبته 60.83%. وبلغ الدَّيْن العام بالعملة الأجنبية نحو 50 ألف و917 مليار ليرة لبنانية، أي ما يعادل نحو 33.78 مليار دولار أميركي ونسبته 39.17%.
ووفقاً للاعتمادات المُقدّرة الملحوظة في الباب 26 للنفقات المشتركة - عمليات الدَّيْن العام، فإن الفوائد على سندات خزينة بالعملة المحلّية بلغت 5 آلاف و46 مليار ليرة في حين بلغت الفوائد على سندات الخزينة بالعملة الأجنبية 3 آلاف و127 مليار ليرة. وبناءً عليه، وتطبيقاً للنصّ المُقترح في المادة 30 من مشروع موازنة العام 2019، فإن الخزينة ستخسر إيرادات من ضريبة الـ10% بقيمة 312.7 مليار ليرة، أي ما يعادل 208 ملايين دولار أميركي.
والسؤال المشروع: هل هذا الإعفاء معلوم ومقصود من قبل من أعدّ مشروع الموازنة ومن وافق عليها؟ ومع من تمّ الاتفاق عليه، فهل في الإعفاء صفقة ما؟ أم أن هذا الإعفاء تمّ تمريره من طرف ما بحيلة لغوية مُحترفة، حيت تمّ دسّ كلمة «بالعملة» بين كلمتي «الخزينة» و«اللبنانية»، فأصبح النصّ «فوائد وإيرادات سندات الخزينة بالعملة اللبنانية» بدلاً من النصّ النافذ حالياً «فوائد وإيرادات سندات الخزينة اللبنانية».

مدير المؤسّسة اللبنانية للخدمة الضريبية