جيمس كروتّي هو أستاذ فخري في الاقتصاد في جامعة ماساشوستس أمهيرست. يُعتبر هو وزميله سام بويلز، من الاقتصاديين القلائل الراديكاليين المخالفين للإجماع الذين شغلوا موقعاً في جامعة أميركية مرموقة. تعدّ المساهمة الرئيسية لكروتّي في الاقتصاد، محاولته الجمع بين ماركس وكينز. وانتهت المحاولة بأن حاجج كروتّي في مقالة نشرها عام 1985 بعنوان «مركزية المال والائتمان والوساطة المالية في نظرية الأزمة لدى ماركس»، أن «رؤية ماركس للأزمات الرأسمالية لا يمكن أن تُفهم سوى لناحية تطوّر الائتمان والنظام المالي، ونقاشه لهذه الأفكار مهّد للأفكار حول الهشاشة المالية التي طورّها لاحقاً مينسكي وغيره من الاقتصاديين ما بعد الكينزيين». بعبارة أخرى، كان ماركس «مينسكياني ما بعد كينزي».
لن أخوض في مدى صحة وجهة النظر هذه، لأن كروتّي نشر كتاباً جديداً بعنوان «كينز في مواجهة الرأسمالية: حجته الاقتصادية لليبرالية الاجتماعية»، اعتبر فيه أنه بعيداً عن كونه محافظاً، كان كينز اشتراكياً، إن لم يكن ثورياً مثل ماركس. وكتب أن «كينز لم يطرح نفسه مُنقذاً للرأسمالية من نفسها، كما يعتقد كثيرون، بل اعتبر أنها تحتاج إلى أن تُستبدل بشكل ليبرالي بالاشتراكية».
ويحاجج كروتّي أن اشتراكية كينز الليبرالية بدأت تأخذ شكلها في ذهنه في أواسط العشرينيّات من القرن الماضي، وتطوّرت إلى شكل مؤسّسي أكثر واقعية في العقد التالي تقريباً، وفصّلها في عمله على التخطيط الاقتصادي لمرحلة ما بعد الحرب في وزارة الخزانة البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية.
دايفيد لو أستراليا

ويحلل كروتّي أن «كينز كتب في العديد من الأماكن بأنه اشتراكيّ. وألقى خطابات أمام حزب العمال قال فيها إنه اشتراكي. ما الذي يعنيه ذلك؟ يعتقد كينز أنّ علينا تنظيم قرارات الاستثمار الرأسمالي، وأن نجمعها تحت مظلّة مجلس وطني للاستثمار. وأنّ علينا أن نجمع جميع مصادر الادّخار في اقتصادنا في مكان واحد. ويتناول جميع الأمور المهمّة والرائعة التي يُمكن القيام بها بهذا الرأسمال إن استطعنا التحكّم به. وفي عام 1942 أو 1943 قال إنه إذا استطاعت الدولة أن تتحكّم بثلثي إلى ثلاثة أرباع الاستثمارات الرأسمالية الكبيرة عبر مجلس وطنيّ للاستثمار، فسنكون على ما يرام. والطريقة الوحيدة التي يمكننا القيام بذلك من خلالها هي عبر تخفيض معدل الفائدة نحو الصفر، وهذا ما علينا فعله. لذلك يجب أن يكون لدينا تحكّم متشدّد برأس المال، وإّلا فإنّ الناس سيسحبون أموالهم».
يفسّر كروتّي أفكار كينز بأنها اشتراكية: «تعني خطته الاشتراكية أنه سيكون علينا إدارة تجارتنا، وأن يكون لدينا سياسات صناعية، وسياسات خاصة بالرواتب، وسياسات مبنيّة على الموقع الجغرافي. وكلّ ذلك يهدف إلى تحقيق العمالة الكاملة، ولكن في الوقت نفسه خلق الفنون وبناء المدن والمساكن وما إلى ذلك. وفي اشتراكيته، لا تزال الأسواق الخاصة موجودة ولكنها صغيرة. وهو يقول دائماً إنه إن لم يكن لدينا اشتراكية، فستعمّ الفوضى وسيكون هناك ثورة».
ولكن هل وجهة النظر التي تعتبر كينز اشتراكياً صحيحة؟ يحاجج كروتّي أنها كذلك لأن كينز «رفض بشكل حاسم النظرية التقليدية للمنافسة المثالية، ورحّب بالاتجاه المستمر نحو زيادة الاعتماد على الشركات الحكومية، وحاجج بأن على الحكومة ألّا تقبل فقط الحركة الحالية ضد الكارتيلات والشركات القابضة والرابطات التجارية والتكتلات وغيرها من أشكال احتكار السلطة، بل عليها أيضاً أن تدعمها بشكل نشيط وتسرّعها من أجل تنظيمها والتحكّم بها. ويحاجج كينز بأن قسماً متزايداً من الشركات الخاصة الأكبر والأهم في البلاد تتطوّر بشكل يجعل من السهل تنظيمها كشركات عامة».
وبرأي كروتّي، فإن الفكرة المركزية لكينز تقضي بأن الأهمية الناشئة لنظام الشركات والاتحادات العامة وشبه العامة المقترنة بتطوّر العلاقات المبنيّة على التواطؤ واحتكار القلّة في القطاع الخاص، قدّمت حتى الآن أساساً للزيادة النوعية في تحكّم الدولة بالاقتصاد. ويخلص كروتّي إلى أن «كينز كان نقابوياً بلا خجل». ولا بدّ أن أشير هنا إلى أن مفهومه للنقابوية لم يكن مختلفاً عن النقابوية التي طبّقت في ألمانيا وإيطاليا الفاشية.
ومن كان سيدير هذه الدولة الرأسمالية/الاشتراكية؟ بحسب كاتب سيرة كينز، روبرت سكيدلسكي، الجواب هو «نخبة مترابطة من مدراء الشركات والمصرفيين والموظفين العامّين والاقتصاديين والعلماء المدرّبين في أكسفورد وكمبردج والمشبّعين بأخلاقيات الخدمة العامة، تأتي لتدير أجهزة الدولة سواء كانت خاصّة أم عامّة وتجعلها تعزف اللحن نفسه». (سكيدلسكي 1992، ص 227-28).
ورفض كينز حرية النشاط الاقتصادي واشتراكية الدولة العقائدية، لأن «المطلوب الآن ليس منافسة حرة في السوق، ولا تخطيطاً مركزياً كمّياً، بل «منافسة منظّمة»» (19، 643). ويتابع كينز «علينا أيضاً أن نكون مستعدّين للاختبار في كلّ الأنواع الجديدة للشراكات بين الشركات العامة والخاصة. والحلّ لا يكمن لا في التأميم ولا في المنافسة الخاصّة غير المنظّمة، بل في مجموعة متنوّعة من الاختبارات ومحاولات استخراج الأفضل من العالَمين. على الحكومة الاعتراف بالاتجاه الذي يدعو لإدارة الشركات بشكل سليم نحو الصناديق والتكتلات. ويجب أن تكون مستعدّة للاعتراف بوجودها كمؤسّسات مستفيدة في ظروف مناسبة، وعليها اعتماد موقف تجاهها يقوم على التشجيع والتنظيم» (19، 645). وبهذه الطريقة «سنحصل على الأفضل من الوحدات الكبيرة، وعلى المزايا التي يمكن توقّعها من التأميم، وفي الوقت نفسه الحفاظ على مزايا الشركة الخاصة والتحكم غير المركزي». (19، 649).
كانت «اشتراكية» كينز مصمّمة علانية كبديل للأفكار الخطيرة والخاطئة لما اعتقد أنها ماركسية


كانت «اشتراكية» كينز بالفعل ما يوصف بالاقتصاد المختلط، الذي يدمج التكتّلات الرأسمالية والسيطرة الحكومية، والتي تديرها «نخبة مترابطة من مدراء الشركات والمصرفيين والموظفين العامّين والاقتصاديين والعلماء المدرّبين جميعاً في أكسفورد وكمبردج». وهذا ما يصفه كروتّي بالاشتراكية الليبرالية. بالنسبة إلي، هذا التوجه ليس ليبرالياً ولا اشتراكياً، بل هو نخبوي ورأسمالي.
ما هي السياسات الاقتصادية العملية لاشتراكية كينز وفقاً لكروتيّ. يقترح كينز مجلساً وطنياً للاستثمار تشكّل أمواله 4 إلى 8% من الناتج المحلي الإجمالي لاستثمارها بشكل يضمن أن تسلك الاقتصادات اتجاهات منتجة. وهذا الاقتراح هو جزء من مانيفستو الحزب الليبرالي عام 1928، وليس مصادفة أنه جزء من أفكار حزب العمال في عام 2019 تحت إدارة كوربين وماكدونيل. وهذا، وفقاً لكروتّي، هو ما كان يعنيه كينز في عبارته الشهيرة «اشتراكية الاستثمار».
ولكن في حال كنتم تعتقدون أن كينز أراد فقط أن تدير هذه النخبة الدولة الرأسمالية للشركات، فإنه في الوقت نفسه حاجج بأنه من أجل «جعل العامل يشعر بأنه يُعامَل كشريك وليس كمجرّد أداة» (238)، اقترح أن يُطلب من كلّ شركة تشكيل «مجلس عمّال» لتسهيل «وضع طرق دائمة ومنتظمة وراسخة للتشاور بين الإدارة والعمال في كلّ مصنع وورشة كبيرة» (472). ويشكّل ذلك صدى لـ«اقتصاد السوق الاجتماعي» في ألمانيا الحديثة.
هذا هو الدليل الذي يعتمده كروتّي للقول إن كينز كان ضدّ الرأسمالية ومع الاشتراكية. بالنسبة إلي، هذا مجرّد دليل على أن كينز يعتبر أن الرأسمالية لم تعد نظام «منافسة مثالية» (ولم يكن أبداً من الأساس) بل تحوّلت إلى «رأسمالية احتكارية». وهذا كان أمراً جيداً يتطلب فقط توجيهاً من «نخبة متعلّمة» مدعومة من العمال من أجل تحقيق الرخاء للجميع.
وهناك أدلة كثيرة في كتابات كينز تشير إلى أنه كان يؤيّد فعلاً «الرأسمالية المدارة» وليس الاشتراكية بأيّ تعريف منطقي كان. وكتب «بالجزء الأكبر، أعتقد أن الرأسمالية، المدارة بشكل حكيم، يمكنها على الأرجح أن تكون أكثر فعالية لبلوغ الأهداف الاقتصادية من أيّ نظام بديل، ولكن هذا بحدّ ذاته أمرٌ مرفوض. فمشكلتنا تكمن في إيجاد تنظيم اجتماعي يكون على أقصى درجة ممكنة من الفعالية من دون الإخلال بمفاهيمنا المتعلّقة بطريقة الحياة المرضية».
ولكن يجب أن يبقى دافع الربح ثابتاً: «قد تعود خسارة الأرباح إلى شتّى أنواع الأسباب، ولكن لا إمكانية لمعالجة البطالة من دون إعادة هامش ربح مناسب لأرباب العمل». ويحاجج بأنّ «الرخاء الاقتصادي... يعتمد على جوّ سياسي واجتماعي يناسب رجل الأعمال العادي». وكما يوضح المؤرخ الاقتصادي الأميركي بروس بارتليت: «لقد قدم للاقتصاد نموذجاً هرمياً. فكان المركز الإبداعي للنظام هو رجل الأعمال الماهر، وهدف السياسة كان تنمية مهاراته وضمان تحفيزه على الاستثمار».
في أيامه الأخيرة أشاد كينز بالرأسمالية الليبرالية الحرة الذي دانها في العشرينيات. وعام 1944، كتب إلى فريدريتش هايك النيوليبرالي، الرائد في زمنه والمرشد الأيديولوجي للتاتشرية، في إشادة بكتابه «الطريق إلى العبودية»، الذي يحاجج فيه بأن التخطيط الاقتصادي يقود حتماً إلى الشمولية: «أخلاقياً وفلسفياً، أجد نفسي أتّفق مع كامله (الكتاب) تقريباً. ولا أتّفق فقط بل أتّفق بتأثّر عميق».
هل التزم برأيه بـ«الاستثمار ذي الطابع الاجتماعي» كما يدّعي كروتّي؟ إليكم ما قاله كينز في سنواته الأخيرة: «إذا نجحت ضوابطنا المركزية في إنشاء حجم إجمالي من الناتج يناظر العمالة الكاملة بشكل عملي قدر الإمكان، فإنّ النظرية الكلاسيكية تأتي من تلقاء نفسها مرّة أخرى من هذه النقطة فصاعداً». إذاً، بمجرد تحقيق العمالة الكاملة يمكننا الاستغناء عن التخطيط والاستثمار ذي الطابع الاجتماعي والعودة إلى الأسواق الحرة والاقتصادات التقليدية الكلاسيكية الجديدة: «النتيجة لملء الفجوات في النظرية الكلاسيكية ليست التخلّص من نظام مانشستر (الأسواق الحرة)، بل تحديد طبيعة البيئة التي يتطلّبها اللعب الحر للقوى الاقتصادية إذا كانت تهدف إلى تحقيق الإمكانات الكاملة للإنتاج».
كان كينز معارضاً بشدة للتخطيط الاقتصادي الوطني، الذي كان رائجاً بعد الحرب العالمية الثانية. وكتب «إن ميزة كفاءة لامركزية القرارات والمسؤولية الفردية أكبر حتى ربما من القرن التاسع عشر؛ وردّ الفعل باللعب على وتر المصلحة الذاتية قد ذهب بعيداً».
وعلى عكس كروتّي يعتبر بارتليت أن «كينز كان محافظاً من كل النواحي تقريباً، سواء في الفلسفة أو في الطبع، إلا أنه سمّى نفسه ليبرالياً طيلة حياته. وكانت النزعة المحافظة هي وظيفة طبقته. فحين سئل لماذا لم يكن عضواً في حزب العمال ردّ «أولاً هذا حزب طبقة وهذه ليست الطبقة التي أنتمي إليها. والحرب الطبقية ستجدني إلى جانب البرجوازية المتعلّمة»». وكان أيقونة المحافظين إدموند بوركي أحد أبطاله السياسيين. وقد أعرب كينز عن ازدرائه لحزب العمال ووصف أعضاءه بأنهم «أبناء عقيدة بالية تقوم على شبه ماركسية فابيّة تكسوها الطحالب». ووصف حزب العمال أيضاً بأنه «قوة تدميرية هائلة» ترد على «هراء معادٍ للشيوعية بهراء معادٍ للرأسمالية».
وكانت «اشتراكية» كينز مصمّمة علانية كبديل للأفكار الخطيرة والخاطئة لما اعتقد أنها ماركسية. وكان يعتبر اشتراكية الدولة «أفضل قليلاً من صمود مغبرّ لخطّة حل مشاكل تعود إلى خمسين سنة ماضية بناء على سوء فهم لما قاله شخص ما قبل مئة عام». وقال كينز لجورج برنارد شو إن كل فكرة النظرية العامة تقوم على هدم الأسس الريكاردية للماركسية، وبهذا كان يعني نظرية العمل للقيمة وما تعنيه من أن الرأسمالية نظام يستغل العمال من أجل الربح. وقال إنه لا يحترم كارل ماركس واصفاً إياه بأنه «مفكّر ضعيف»، ووصف «رأس المال» بأنه «كتاب مدرسي اقتصادي عفا عليه الزمن، أعلم أنه ليس فقط خاطئاً من الناحية العلمية بل أيضاً لا يهم العالم الحديث ولا يمكنه تطبيقه».
يرى جون كينيث غالبرايت الاقتصادي الخارج عن الإجماع من عهد روزفلت وسنين ما بعد الحرب، والذي كان كينز يعتبر أفكاره يسارية جداً، «كان التوجّه العريض لمساعيه، مثل مساعي روزفلت، محافظاً، وذلك لضمان بقاء النظام». ويخبرنا هارود صديق كينز وكاتب سيرته أن «وراء قشرة الليبرالية العصرية، كان كينز دائماً محافظاً للغاية ولم يكن اشتراكياً. وجعلته نظرته إلى الطبقة الوسطى والفنانين والعلماء والمفكرين من جميع الأنواع يكره عناصر الاشتراكية الواعية طبقياً. لم يكن لديه أي شعور بأهمية المساواة فإذا كان يريد تحسين أحوال الفقراء فليس من أجل المساواة بل لجعل حياتهم أكثر سعادة وأفضل». (من دون تدخلهم طبعاً).
لطالما كان صعباً التأكّد من موقف كينز من العديد من المسائل لأنه غيّر وجهات نظره باستمرار. وحين انتقده هايك على ذلك ردّ كينز بأنه «إذا تغيّرت الحقائق، أغيّر وجهات نظري، ألا تفعل أنت ذلك؟». وحتى لو كان الأمر كذلك، يبدو أن الأستاذ كروتّي وحده من يعتقد أن كينز كان اشتراكياً معادياً للرأسمالية.

Michael Roberts Blog
ترجمة لمياء الساحلي