في الأسبوع الفائت، لفت نظري عنوان مقال، في صحيفة محلّية، ينقل عن مدير أبحاث أحد أهمّ مصارفنا أن «الودائع في المصارف اللبنانية زادت 4.7 مليارات دولار في الآونة الأخيرة».معظم الناس استنتجوا عند قراءة هذا العنوان أن الوضع النقدي والاقتصادي في البلاد على ما يرام، لأنّ رقم 4.7 مليارات دولار «مش مزحة». ولكن ما لفت انتباهي أيضاً في الصحيفة نفسها، وعلى الصفحة نفسها، بمحاذاة ذاك المقال، هو عنوان آخر مفاده أن: «التهرّب الضريبي في لبنان يصل إلى 5 مليارات دولار». ما سأقوله الآن فيه الكثير من التبسيط، ولكن مع ذلك، ومن منطلق «الصورة الكبيرة»، لا شكّ أن العملية الحسابية التراكمية دقيقة.
من المؤكّد أن معظم القرّاء لم ينتبهوا إلى العنوان الثاني، أو على الأقل لم يعيروه الأهمية اللازمة، لأن التهرّب الضريبي وسام فخر عند معظم اللبنانيين. وربّما لا يُلامون على هذا التفكير السلبي، إذ إن المال العام في بلادنا لا ينفق بطرق مثالية «فينا نشوف حالنا فيها». ولعلّ الشعب اللبناني قد اشمأزّ من أمثلة عدّة لكيفية تبذير ضرائبه، وقد تكون مؤسّسة السكّة الحديد المقفلة منذ نحو 40 عاماً، المثال الأوشع انتشاراً، أو ربّما تمويل إضاءة العواميد على الطرقات السريعة في النهار (وإطفاؤها في الليل). ولكن، بغض النظر عن سوء توزيع ميزانية الدولة، أو الهدر فيها، فإن هذه الضرائب الضائعة، لو أنها حُصِّلت، على الرغم من هذا التبذير، لكانت تدفّقت الى الاقتصاد اللبناني، لتشتري السلع، وتنشئ مؤسّسات جديدة، وتوظّف عاطلين من العمل، وتُولّد ضرائب جديدة لتخفيض عجز الدولة. وهذا الأمر بالتأكيد أفضل من أن «يُلبِّصوا» في المصارف لجني فوائد جنونية ومريبة، ما يؤدي إلى زيادة نسبة الاقتصاد الريعي الكسول والمدمّر، وامتداده كالسرطان، ينهش الأعضاء المُفيدة من اقتصادنا، كالصناعة والزراعة والإبداع المعلوماتي. وهذا الأخير، برأيي المتواضع، يكمن فيه مفتاح الخلاص لاقتصادنا، مع احترامي لتقرير «ماكنزي»، الذي لم نعلم عن أي إجراءات جذرية يتضمّنها، غير ما قيل عن بدعة تشريع الحشيشة، التي ألهمت المئات من النكات على مواقع التواصل الاجتماعي.
لنتجاهل لثانية مشكلة التهرّب الضريبي ونحلّل الإنجاز «الهرقلي». فمجموع الودائع في لبنان يبلغ نحو 173مليار دولار، الذي هو بمثابة فخر للكثيرين من النخبة في بلادنا. لا ندرك معدّل الفائدة التي تدفع على هذه الودائع، ولكن من المعلوم أن الفوائد زادت بحدّة في الآونة الأخيرة، فإذا أضفنا 2% إلى معدّل السنة الماضية، وهذا التقدير أقل من الواقع المرجّح، فهذا يعني أن مجموع الودائع زاد بمبلغ 5.7 مليارات دولار بظرف ستة أشهر. أمّا إذا اعتبرنا أن معدل الفائدة زاد إلى 8%، فهذا يعني أن الودائع زادت 7 مليارات دولار في آخر ستة أشهر. لذلك كيفما تمّ الحساب، فإن مجموع الودائع انخفض ولم يزد، على الرغم من كل التحفيزات والإغراءات التي تُقدمها المصارف. هذا الانخفاض ليس ضخماً، ولكن لا شكّ أن اتجاهه مُقلق. إذاً، عنوان الصحيفة المذكورة لم يكن دقيقاً، بل مُضللاً، وهو على الأرجح جاء من باب التطمين.
طبعاً، حتى لو لم تكن اختصاصياً في علم الاقتصاد أو دكتوراً في علم فيزياء الذرّة، فمن الواضح أن الارتفاع السريع للفوائد على الدولار والارتفاع الأسرع على الفوائد بالليرة، يعني أن الحفاظ وجذب هذه الودائع أصبح أصعب بكثير من السنوات الفائتة. ولكن هناك شيء مريب أكثر من المعتاد هذه المرة. وفق تقرير منشور في ملحق «رأس المال» في «الأخبار»، فإن «الزبائن، ممن يملك كل منهم وديعة بقيمة مليون دولار وما فوق، يستحوذون وحدهم على 51.96% من مجمل الودائع المصرفية، أي نحو 86.6 مليار دولار. وتكشف هذه الإحصاءات أن هؤلاء المودعين الكبار يستحوذون على ثلثي الودائع بالعملات الأجنبية وثلث الودائع بالليرة، إذ يملكون نحو 60.70% (69.2 مليار دولار) من مجمل الودائع بالعملات الأجنبية». وفي الوقت نفسه، خفضت المصارف الحدّ الأدنى للودائع المؤهّلة للفائدة الباهظة، وغير المألوفة منذ عقود، والتي تصل إلى 15% على مبلغ صغير مُجمّد لمدة خمس سنوات. وأحد الأسئلة التي يجب أن يطرحها كل مواطن لبناني يملك وديعة، هو أين يوظِّف هذا المصرفي اللبناني العبقري ودائعك، التي تحوي جنى عمرك، لكي تنتج أرباحاً كافية لتغطّي هذه الفوائد الفاحشة، فيما نمو الاقتصاد اللبناني لا يتجاوز 1%؟
يعني «بالعربي المشبرح»، يظهر هذا الإحصاء أن المليونير اللبناني يضع معظم ثروته الـcash بالعملات الأجنبية، والمصارف الآن تحاول أن تعوّض عنه بإغراء اللبنانيين من الطبقة الوسطى أو الفقيرة بفوائد فاحشة على الليرة.
والسؤال هنا، ما هي المعلومات التي هي بحوزة المليونير والملياردير اللبناني، والتي لا تعرفها أنت؟

*مصرفي متقاعد ــــ الرئيس السابق لمجلس إدارة Standard Chartered Bank