لدى المتخصّصين والخبراء في قطاع العقارات مفهوم يستعملونه عند تقييم أي قطعة أرض خام، أي التي لا يوجد بناء عليها، وهو «الاستخدام الأفضل والأعلى» لهذه الأرض (Best and highest use). لنفترض على سبيل، أنك تمتلك قطعة أرض تبلغ مساحتها 3 آلاف متر مربّع في إحدى أكثر المناطق غلاءً في بيروت، مثل سوليدير أو الأشرفية أو رأس بيروت، وقرّرت بناء تمثال ضخم عليها لجدّك «لطيف» تخليداً لذكراه، تحيط به حديقة جميلة بما يتيح للعائلة زيارة الضريح دورياً. ولسدّ الطريق أمام إمكان ارتفاع أي بناء آخر على الأرض، وضعت شرطاً يقضي بمنع هدم التمثال في حال شرائها، مهما كان السبب. فكم ستبلغ قيمة هذه الأرض بنظرك؟ السؤال هنا بلاغي. في الواقع، هذه الأرض بوضعها القائم، تقارب قيمتها صفر بالنسبة إلى معظم الناس، وإن كان أحد أفراد العائلة المتعلّقين بجدّك سيدفع الكثير لاقتنائها حفاظاً على ذكرى الجدّ «لطيف».
إذن ما هي القيمة الأفضل والأعلى لهذه الأرض؟ ترتبط الإجابة البديهية بتصنيف المنطقة حيث توجد الأرض، إلّا أن الجواب الأبسط والأكثر واقعية يتعلّق بمساحة البناء المُمكن تشييده، وعدد الطبقات المُمكن الارتفاع بها (ثمن الهواء كما يُقال) على هذه الرقعة من الأرض.
لنترك الأمثلة جانباً ولننتقل إلى حالتنا الراهنة لمعرفة القيمة الفعلية للأرض على ضوء ما يشهده سوق العقارات وأزمة السكن المُستمرّة. في الواقع، إن شراء قطعة أرض للبناء عليها، في حين أن الوحدات السكنية التي تمّ الانتهاء من بنائها لا يمكن بيعها، وهناك المئات من الوحدات الأخرى قيد الإنشاء التي ستلحق بها وتشهد المصير نفسه، هو أمر مُكلف لا بل خاسر. إذ من الواضح أن هذا المبنى الذي سيكتمل في غضون سنتين أو ثلاث سنوات، سيبقى احتمال بيعه معدوماً، كونه لن يجد من يشتريه، وبالتالي سيتهالك مع تقادم السنين ويبقى فارغاً، فيما سيدفع مالكه التكاليف لصيانته من دون الحصول على قرش واحد منه لمدّة خمس أو عشر سنوات ربّما. في حين أن استثمار مبلغ مليون دولار (الذي قد يُخصّص لشراء أرض) في سندات اليوروبوندز بفائدة 10.5% سيوصل المبلغ إلى 2.7 مليون دولار خلال عشر سنوات، أي أكثر من ضعفي المبلغ الأساسي، أو إلى 4.05 مليون دولار خلال عشر سنوات إذا وظّف في شهادات الإيداع بالليرة اللبنانية بفائدة 15%، أي أكثر بـ4 أضعاف من المبلغ الأصلي.
القاعدة السوقية والحسابية واضحة: إن تراجع الطلب على الشقق الجاهزة، سيؤدي إلى تراجع الطلب على الأرض، وبالتالي ستنخفض أسعارها. وفي حال ما زال هناك من يشكّك بأن أسعار الأراضي آخذة في الانخفاض، وبأنه لا يوجد طلب عليها، كلّ ما عليه فعله هو إلقاء نظرة على الإعلانات المصرفية التي تشجّع على إقراض المال لشراء الأراضي. لماذا تُقدّم المصارف هذه العروض على قروض شراء الأراضي، علماً أنها المرّة الأولى التي تقوم بذلك؟ وما الذي يدفعها نحو تشجيع هذه الاستثمار العقاري الأكثر خطورة باعتراف الخبراء العقاريين أنفسهم، لا الهواة الذين يعيدون تكرار الأمثلة الموروثة نفسها، لو لم يكن تراجع هذا القطاع يدفعها لمحاولة دعم الأسعار وإبقائها على مستواها؟
على الهامش، تجدر الإشارة إلى حقيقة لا تُؤخذ في الاعتبار عند تقييم حجم لبنان، بما يعيد اجترار النتيجة الساذجة نفسها التي تقول إن أسعار الأراضي لا تنخفض لا بل سترتفع دائماً، وهو أن قواعد البناء المعمول بها في لبنان تسمح بتشييد أبنية من 5 طبقات أينما كان من بيروت إلى عنجر، أي أنه مجهّز لعرض عقاري هائل بأسعار منخفضة، وهو ما يعني أن لبنان شبيه بسنغافورة وهونغ كونغ (طبعاً ناقص البنية التحتية والكهرباء المتوافرة على مدار الساعة وسيادة القانون)، وهو قادر على استيعاب 50 مليون نسمة في حال شيّدت كلّ هذه الأبنية غير المرغوب فيها على مجمل مساحته.
بطبيعة الحال، تستغرق المُعتقدات الراسخة والأساطير وقتاً للتخلّص منها في نظام ما. في البداية، اعتقد الناس في لبنان أن «العقارات لا تنخفض أسعارها أبداً»، من ثمّ توصلوا إلى قناعة جديدة بأن «الوحدات السكنية الكبيرة فقط تنخفض أسعارها دون الوحدات الصغيرة»، وبعدها انتقلوا إلى وضعية جديدة أقنعوا أنفسهم خلالها بأن «أسعار الشقق الصغيرة تتراجع إلّا أن سعر الأرض يبقى ثابتاً». حسناً نحن اليوم في هذه المرحلة!
*مصرفي متقاعد - الرئيس السابق لمجلس إدارة Standard Chartered Bank