أعتقد أن حياة الذين يرفضون الانفتاح على الأشياء والتجارب الجديدة عادية ومملّة، تعاني من انكماش، تتحرك ببطء، وللهروب من الملل يختارون انتقاد أولئك الذين اتبعوا دروباً مختلفة. تواجهنا الكثير من استطلاعات الرأي على وسائل التواصل الاجتماعي منها سؤال يتعلق بالفن تحديداً: «هل تعتقد أن الفن بوسعه أن يغيّر العالم؟». غريبٌ أمر الإنسان حقاً، إذ هو يستفسر ويطرح الأسئلة حتى لو كانت بعض الإجابات واضحة. لا يهمني ما وصلت إليه نتيجة استطلاعات الرأي، بل يهمني الاعتراف بضرورة الأسئلة التي خبأتها مذ كنت طفلة عندما غيّرت الكتب حياتي، بعد نزوحي من مدينة بيروت ملعب طفولتي وأحلامي إلى قوقعتي الجبلية في ظل الحرب الأهلية، وأعترف بأنني لا زلت من يومها متورطة بسحر الكلمة والقراءة أكثر وأكثر.


كان الكتاب منقذي في المحن والأزمات قبل أن أكتشف شغفي بالفنون البصرية. وبعد التعمق بالدراسة، وتجارب قادتني لترجمَة أفكاري وحواسي ومشاعري، أصبح الفن النافذة الوحيدة التي أطل منها إلى العالم لاستنشق هواءً نقياً وأمضي نهاري بين دفّتَي البياض وعبق اللون مدركة منذ زمن أنه مصدر الأمان.
هذا الانكماش أو ضيق الأفق، بات حالة يعاني منها غالبية البشر، وهو محور عمل فني تركيبي أدائي للفنان البلجيكي للورانس مالستاف، بعنوان «انكمش 01995» (Shrink 01995) أحياه أخيراً في إحدى ليالي باريس البيضاء في قصر غالييرا حيث تعود باريس من جديد هذا العام لتحتفل بالفن المعاصر.

الفن يوّحد
يعتقد مالستاف أن دور الفنان لا يقتصر على الإبداع بل الكشف عن السحر. كشف النقاب عن الغرائبي الغامض، ثم تأطيره وجعله قابلاً للعرض وقابلاً للتكرار. ومع ذلك، فإن أسلوبه البسيط يمنعه من التسلية بل يذهب به بعيداً إلى ما يسميه خدعة سحرية شائعة يستخدمها لإنشاء العرض المسرحي. يقول: «أحاول حقاً أن أتخلص من كل هذا النوع من الضيق من خلال فكرة المسرحية هذه، للوصول إلى الجوهر تماماً. بالنسبة إليّ، لا يتعلق الأمر بإنشاء شيء ما، بل يتعلق بتجربة المتلقي». تعدّ مشاريع مالستاف الفنية بطريقة ما محفزّة لما يشعر به المتلقي بالفعل مسبقاً، أعمال أشبه بمكبّر الصوت لما هو موجود بداخلنا. يبدو الأمر كما لو كنت تغوص تحت الماء وتقترب من أسماك أو نباتات غريبة لم ترها من قبل، قد تبدو خطيرة أو جميلة بطريقة سحرية.
صحيح أن الفن لن يغير العالم ولكن من دون شك يغيّر حياتنا. فالفن هو القادر على توحيد مشاعرنا. يدفعنا إلى التجارب من دون خوف أو وجل. يسمح لنا أن نتفاوض مع أنفسنا، مع مفاهيمنا، مع بيئتنا ومع الآخرين وهذا ما يؤدي إلى التواصل والحوار وإلى رؤية اجتماعية مختلفة، تعترف بحقوق الآخرين وتقبّل وجهات النظر المتعددة والمختلفة.

الفن يحرر بالرغم من الانكماش
«انكمش01995» عبارة عن عرض باليه معلّق لفنانين قدّموا تجربة نموذجية في الأداء، حيث سمحوا لأنفسهم بالوقوع بين لوحين من البلاستيك الشفاف قبل أن يتم امتصاص الهواء تدريجياً كما لو كانوا محشوين بالفراغ. يتنفس الراقصون من خلال الأنابيب وينخرطون في تصميم الرقصات المعلقة حيث تكون الحركات بالضرورة بطيئة ومقيدة وهادئة. قدم لنا لورانس مالستاف رقصة باليه عديمة الوزن. ستة فنانين مسجونين في ظل فراغ. فقط أنبوب شفاف يتم إدخاله بين طبقتين من الغشاء البلاستيكي يسمح لهم بتنظيم تدفق الهواء. ويؤدي الضغط المتزايد إلى تجميد سطح أجسادهم تدريجياً في طيات دقيقة متعددة.
الراقصون في لوحات معلقة حقيقية ترمز إلى عالم متغير. يتحركون ببطء في تصميم الرقصات، ما يترك الجسم معلقاً بالفراغ ومعلقاً عمودياً طوال مدة الأداء، أي على نحو ست ساعات. يعمل ضغط الهواء على تجميد الأجسام الملفوفة ويحدّ من حركتها. لكن رغم ذلك يتحرك الشخص الموجود بالداخل ببطء ويغير أوضاعه، التي تُراوح من وضع جنيني تقريباً إلى وضع يشبه الجسم المصلوب. إنها تعكس ببساطة عالمنا المتغير الذي يسعى فيه البشر باستمرار إلى التكيف.
تقع أعمال لورانس مالستاف على الحدود بين الفنون البصرية والفنون المسرحية. يقوم الفنان بتطوير التركيبات والعروض التي تتمحور حول الحركة والصدفة والنظام والفوضى، مستخدماً الفيزياء والتقنيات الجديدة كنقطة انطلاق أو مصدر إلهام لإنشاء مساحات حسية.

سحر الفن يوقظ
قام الفنان البلجيكي بعد دراسة التصميم الصناعي بتصميم سينوغرافيا في قطاع المسرح. بعد ذلك، قام بتطوير فن التركيب والأداء مع التركيز بشكل خاص على الحركة والصدفة والنظام والفوضى، مستخدماً المتلقي بانتظام كممثل مشارك. غالباً ما تستخدم مشاريعه التكنولوجيا المتطورة كنقطة انطلاق أو إلهام، لتنشيط حركة الحياة معتمداً على أهمية الفن في إيقاظ الجمهور وحثه على التفاعل. ونتيجة لإبداعه حصد العديد من الجوائز العالمية في مجال الفن والتقنيات الجديدة. يستمد العمل «انكمش01995» إلهامه من أسلوب حياتنا اليومي والطريقة التي نتعامل بها مع الغذاء، مع لمسة من الاهتمام البيئي ولمحة من سريالية الخيال العلمي. قد تكون تجربة مختزلة ولكن بإمكانها أن تغير حياتنا، أن تدفعنا للتأمل، للانطلاق من هذا الضيق، إلا أنها دون شك تجربة لا تزال سحرية.
يمكن تعريف السحر بطرق مختلفة، ولكن هناك دائماً خيط مشترك كما يوضح لورانس مالستاف: «السحر له علاقة بالمجهول، والأشياء التي لا ندركها عادة. تاريخياً، يلجأ بعض الناس بسرعة إلى الدين أو الأساطير لشرح عجائب الطبيعة، ومجرد حقيقة الحياة على هذا الكوكب، والأسئلة الوجودية الكبيرة مثل كيف حدث كل ذلك، ربما يكون العلم وسيلة لإزالة الغموض عن كل هذه الأشياء. في عصرنا الحالي، غالباً ما يتم اختزال السحر أو العجائب إلى شيء ساذج ما يشير إلى أننا نفتقر إلى المعرفة. لكن يجب أن أكون صادقاً، وهو ما يحفزني غالباً. إلهامي يأتي من الظواهر السحرية في الطبيعة. أعيش في شمال النرويج، حيث العناصر الطبيعية منتشرة في كل مكان ولها تأثير قويّ».
يمكن اعتبار السذاجة مصدراً للضيق، وخاصة عندما تشهد التجربة المغامرة لـ«انكمش01995» (Shrink 01995) تعليقات وردود أفعال جمعها مالستاف من جميع المطلعين: «بشكل ملموس، إذا كنت في التجربة وتكيفت مع الضغط واستمتعت وحاولت إنشاء توازن بدلاً من السيطرة بقوة إرادتك، فستصبح تجربة ممتعة وتأملية للغاية».