يُقال «اعرفوا أسرارهم من صغارهم» فالصغار لا يجيدون كتمان السرّ، وفسحتهم المحبّبة هي جدران الغرف التي يخطّطونها بعبثية وحبور هاربين من غضب أمهاتهم. كذلك هو رسام الغرافيتي والبوب آرت جان ميشال باسكيا (1960-1988) الذي عرّى عيوب بلاده ونشر غسيلها على جدران شوارعها بعبثية تجعل أذيالها تقطر بؤساً ووجعاً وهو يستلذّ بهروبه من السلطات.

فن الغرافيتي، أساساً، هو تمثيل للطفولة المتمردة الموجودة داخلنا. هو الهروب من القانون لنمنح المدن هويتها الحقيقية بتعبيرات، بفوضى فنيّة تتحدى السلطات لتتشكل على واجهاتها دلالات ومفاصل تاريخية تجتاز حدود المدينة إلى العالم. في ظل محدودية الحراك الشعبي التقليدي وضعف تأثيره في عصر وسائل التواصل الاجتماعي والتعبير من خلالها، نتأكد أكثر وأكثر مدى أهمية استحضار الفن بقوالبه المتعددة ومجالاته المختلفة وأبرزها فن الغرافيتي كجزء من النضال السياسي لمقاومة كل مظاهر التهميش واللامساواة وغيرها من بدائع الاستبداد. فالغرافيتي هو فن مقاوم، ينبعث من حنايا المظلومين والمُضطهدين، هو فن الشارع الذي انبثق من رحم أنفاق المترو في مدن مثل نيويورك وفيلادلفيا في أوائل السبعينيات وانتشر إلى بقية مدن الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا ومناطق العالم، ليكون تعبيراً فنياً صارخاً يعادل صواريخ الحكومات المدمِرة بما يمثله من تمرد وتعبير.
جان ميشال باسكيا يشبه الأطفال ببقائه طفلاً في لهوه وشغبه بالرسم. على الرغم من حياته الوجيزة التي انتهت بشكل مأساوي، فقد كان طليعياً إذ تربع على عرش الشهرة في غضون ثماني سنوات فقط، لمع اسمه كعلمٍ من أعلام الفن المعاصر. أعماله ما تزال عالقة في الأذهان، كانت برمتها تعبيراً عن استنكار لحقائق موجودة فرضاً، مثل غياب الصورة السوداء عن عالم الفن، كان باسكيا مهموماً بتجسيد الثقافات وتمثيل الانتفاضات الأفريقية-الأميركية في أعماله. جسّد جان ميشال باسكيا ثورة الشباب في نيويورك في الثمانينيات بل كان رمزاً لها. ندّد في تلك الفترة ضد العنف وبوضعية أصحاب البشرة السوداء في عالم يغلب عليه «الفن الأبيض». أعماله فضحت ذاك النقص الكامن في التنوع داخل عالم الفن، فكان يأمل عن طريق أعماله أن يسد الفجوة ويمنح مساحة في عالم الفن لأصحاب البشرة السوداء، وقد نجح وكان ذلك بمثابة إعلان رسمي لتحجز هذه الفئة مقعدها ثقافياً.

رسام حتى النخاع
إن الغرافيتي هو بند التشريع لأفق الحرية والمقاومة السياسية الجميلة. وفنان الغرافيتي أساساً، يمتلك حساً نقدياً ويمتاز بحاسة فنية وجمالية يسعى إلى إيصال رسالته بطريقة جذابة تصونها الدهشة. فالفنان في هذه الحالة، يساهم في توضيح الرسائل السياسية للجمهور ممّن لا ينخرطون في تعقيدات السياسة ومداراتها المتشعّبة. لقد ظهر الأسلوب الذي أتقنه باسكيا، ونتحدث عن غرافيتي هنا، في الولايات المتحدة الأميركية أولاً وتحديداً في نهاية السبعينيات؛ حين اضطرّت مجموعات موسيقية في الـ«هيب هوب» إلى تفجير صرخاتها على جدران المباني والجسور وفي عربات القطارات لغايات احتجاجية. لقد كان الهيب هوب ملهماً لباسكيا مثلما كان باسكيا ملهماً، وما زال، للهيب هوب. كان لعمله صدى لدى الكثيرين في عالم الفن الذين كانوا حريصين على التخلّص من الاتجاه البسيط الذي سيطر على الفن أواخر السبعينيات حيث وجدوا فيه بطلًا جديدًا. لقد وصف الناقد الأميركي بيتر شجيلدال أعمال باسكيا بالآتي: «لا يمكنك تعلم القيام بهذه الأشياء. يتعلق الأمر بالموهبة التي تخدمها الرغبة والتركيز المتناسبان والفرح». كان باسكيا «رسامًا حتى النخاع» على حد تعبير بيتر.
لطالما كان باسكيا يوقر فنان البوب الأسطوري آندي وارهول. التقيا في مطعم سوهو، وأظهر له باسكيا نسخة من إحدى صوره الملصقة. أعجب وارهول بالفنان الشاب، وسرعان ما بدأ الاثنان في العمل معًا وأصبحا صديقين مقربين. يقول روني كوترون، أحد مساعدي وارهول، «كانت العلاقة تكافلية، اعتقد جان ميشال أنه بحاجة إلى شهرة آندي، واعتقد أندي أنه بحاجة إلى دماء جان ميشال الجديدة. أعطى جان ميشال صورة متمرّدة لآندي مرة أخرى». فقال عنه «باسكيا كان مرآة تعكس ما كان، وما يكون، وما يحلم أن يكون».

هوسه بالوجوه البشرية
عُرف باسكيا بأسلوبه الإيمائي الخام في الرسم، فاستلهم وجوه لوحاته مما رآه في الشارع من مظاهر فقر وكان مهووساً بفناء الإنسان، فرسم على الجدار وعلى القماشة أطيافاً أشبه بالهياكل العظمية ووجوها شبيهة بالأقنعة. تكررت الوجوه البشرية التي تشبه الجمجمة ذات العيون المنتفخة والأنوف الطينية والأسنان المرئية بشكل بارز في عمله مع نص مكتوب، وفي الغالب يعتريه التشطيب وكأنه يكتب بالحذف، مع صور تشبه الكتابة على الجدران لمزيد من التشويق.


لقد صرح باسكيا عن أسلوبيته هذه بقوله: «أشطب الكلمات حتى تراها أكثر: أنا على يقين حين تكون الأشياء بحالة إخفاء فهي تجعلك ترغب بتتبّعها وقراءتها». الكلمات كانت مهمة لباسكيا استخدمها بطرق عدّة، ظهرت على الجدران في كل أعماله كدعوات أو ملاحظات موسيقية لا يمكن فهمها مثل «نفس القديم أو نفس القرف القديم» في سطر واحد مناسب. وفقًا للباحث ريتشارد مارشال، فإن باسكيا «اختار باستمرار في أعماله كلمات تحمل إشارات ومعانيَ مشحونة، ولا سيما مخاوفه العميقة الجذور بشأن العرق وحقوق الإنسان وخلق السلطة والثروة». فالجدران والأرصفة تنطق بما لا تستطيع أن تنطق به الألسن بخربشات تحيل إلى التمرد بكل أشكاله. عندما طُلب منه وصف فنه، رد جان ميشال باسكيا بثقة معتادة: «الملوك، البطولة، والشوارع». بعد أن ترك المدرسة الثانوية، وجد باسكيا دعوته الحقيقية معلّقة في الشوارع فانخرط في البيئة الصاخبة منتجاً الكثير من الروائع التي جذبت انتباه عالم الفن بأسره ليصبح في النهاية شخصية مؤثّرة في وسط مدينة نيويورك.
ونظراً لعدم وجود أي تدريب رسمي أو أكاديمي فقد ابتكر باسكيا أعمالاً تعبيرية مزج من خلالها بين الكتابة على الجدران والإشارات مع النهج الإيمائي والبديهي للرسم التعبيري التجريدي. على الرغم من أن الكثير من أعماله تناولت قلقه الشخصي من خلال صور شخصية منمقة للغاية، إلا أنه رسم أيضاً إلى وجوه شخصيات تاريخية تخص الثقافة الأمريكية-الأفريقية بما في ذلك موسيقيي الجاز والشخصيات الرياضية والكتاب. فباسكيا بقي مخلصاً لإرثه أي لجذوره، إذ اشتغل على مزج الزخارف بحرية ومزج إشارات «الفن الرفيع» مع صور من الثقافة الشعبية والثقافة الأفريقية والكاريبية والأزتيك والإسبانية.
بدأ فن الغرافيتي كجريمة في بعض الدول، وبالوقت الذي ينظر إليه البعض «تدنيسًا» للملكية العامة، ينظر إليه آخرون كتعبير فني يطاول الحياة والثقافة والعواطف الإنسانية، ليتحول حراكاً اجتماعيا بل رهاناً استراتيجياً ضروريًا لإدراك موقع الفن في منظومة الالتزام بقضايا الشعوب ومصائرها.
لقد أثّر بباسكيا فيما بعد بالكثير من الفنانين ولكن لم يضاهيه أحد بأسلوبه لأن هذا النوع من الإبداع النابع من قوة الإدراك والوعي العميق والحزين بقبح الإنسان والعالم لا يمكن أن يُعاد إنتاجه او ترجمته، هو فقط يصفع وجه الحياة لإيقاظها ويمضي.