1600 مبنى يعود تاريخها إلى ما بين الـ50 والـ200 سنة مهددة اليوم في بغداد. إنها ثقافة المولات التي باتت تجتاح بلاد الرافدين وقررت أن تأخذ من عاصمة الرشيد مقراً لها. وبما أن التاريخ بعمقه وعراقته لا يتماشى مع هذه المباني الضخمة، بات ضغط المستثمرين الذي ينحو تصاعدياً منذ 2006 يهدد بحق تاريخ هذه المدينة العريقة. يأتون بأموالهم الى مكاتب التراث في الهيئة العامة للآثار والمتاحف في العراق مطالبين بالسماح لهم بهدم الأبنية. وحينما يرفض العاملون في هذه الإدارة الرضوخ لهذه المطالب، يحاول المقاولون الضغط بطرق أخرى من التهديد والترهيب الى الترغيب والرشوة. ويبقى مكتب التراث على مواقفه رغم صعوبة الوضع، خصوصاً أن ميزانية الهيئة لا تستوعب استملاك أي من المباني المهدّدة، او حتى تكاليف الترميم المطلوبة. ومعروف أن بيوت بغداد القديمة مبنية من الطين، وهي مادة تحتاج الى ترميم بنحو شبه دائم. ويحاول فريق من المهندسين العراقيين دعم مكتب التراث عبر تأسيس مجموعة «الحملة الوطنية لحماية تراث بغداد العمراني» التي تحاول وقف نزيف تدمير الأبنية القديمة خاصة تلك المحيطة بشارع الرشيد الذي يعدّ الشريان التاريخي الحيوي في العاصمة. حتى المدن الدينية التاريخية باتت مهددة بالنمو العمراني في العراق؛ فبيوت النجف وخاناتها القديمة تتهددها مشاريع الفنادق والشقق السكنية التي تؤجر للحجاج، والمطاعم والمحال التجارية. تزايد الضغط العمراني في النجف بعد اختيارها عاصمة ثقافية إسلامية لعام 2012 ويتوقع وصول عدد كبير من السياح والحجاج. وتؤكد عالمة الآثار العراقية لمياء الجيلامي أن «مجلس المدينة يحاول أن يحد من الخطر المحدق بتأمين المبالغ الضرورية لترميم المباني الضخمة مثل خان الشايلان. فهذا المبنى من طبقتين استعمل في ثورة 1920 لسجن الجنود البريطانيين الذين كتبوا اسماءهم واسماء مدنهم على الجدران فحفظها المسؤولون خلف زجاج لإبرازها للسياح. لكن ليس مصير كل بيوت النجف بهذا الحظ. ففي الأحياء القديمة، تنهار البيوت المبنية من الطين بسبب الورش بجوارها، بفعل غياب كل أنواع التدعيم لها. فتسقط واجهات ابنية طينية ملونة تذكّر بأصفهان». أمام هذا الواقع الصعب، تجهد الهيئة العامة للآثار والمتاحف في العراق في حماية بعض من تلك المباني. لكن هذه السلطة المسؤولة عن حماية الابنية التراثية ليست لها ميزانية للشراء أو حتى الترميم، فتتحول بناءًَ عليه إلى مجرد صلة وصل بين المالكين والفعاليات في المدن في محاولة للبحث على حلول.
تعيش هذه الهيئة أياماً صعبة جداً. وتقول الجيلاني، التي زارت العراق أخيراً، إن الوضع في مكاتب الهيئة بات مأساوياً. «فالكتب القديمة في مكتبة المتحف والهيئة تتفتت وما من خبراء لترميمها. أما أرشيف الصور فمأساة بحد ذاتها. يحاول الطاقم أن يرقّم هذه الصور، يعملون على نسخها رقمياً لكن بنوعية رديئة جداً لأنه ليس لديهم أي كمبيوترات حديثة تستطيع أن تحفظ وثائق كبيرة، وليس لديهم ميزانية لشراء حتى الأقراص المدمجة. وكاد الأرشيف أن يغرق ويضيع حينما قرر المقاول أن يقلّص من جودة أعمال الصيانة التي وصلت كلفتها الى 3 ملايين دولار! فإذا به يصب على السقف براميل من المياه التي هطلت في غرفة ارشيف الصور المرمم سقفها حديثاً. سارع الموظفون الى تغطية الخزائن الحديدية بأكياس النايلون بانتظار أن يجفّ السقف!
أمّا عن المتحف والعمل على أرشفة القطع الأثرية، فتقول الجيلاني إن «العمل بطيء جداً ولو سار على هذا المنوال لتطلب سنين طويلة بعد. فقط 20.000 قطعة من أصل 200.000 قد ادخلت أرشيف المتحف الرقمي. بالطبع يعاني العاملون في هذا القسم العديد من المشاكل، فعدد من القطع خسر رقمه في الارشيف القديم، اما التحف المعدنية (وخاصة العملات) فقد تفتّتت بسبب قلة الترميمات وطرق التخزين غير العلمية. وهناك مشكلة عدم قدرة فريق العمل الجديد على التمييز بين القطع الأصلية والمزورة. أما بالنسبة إلى القطع الطينية، والعاجيات والأختام الأسطوانية والزجاجيات... فتنقل الى المخازن المبنية حديثاً».
وبعيداً عن كواليس المتحف، يبدو أن العمل جار لفتح قاعة الحضر حين تستضيف بغداد قمة الجامعة العربية المقرر عقدها في أيار من السنة المقبلة. وبانتظار ذلك، يبقى مصير الهيئة العامة للآثار والمتاحف في العراق معلقاً. فهذه الهيئة التي تدير كل الاعمال التي تتعلق بالآثار والتراث والمتاحف وتنفّذها باتت في خطر. فهي تابعة لوزارتين متنافستين: الثقافة والسياحة. وكل من هاتين الوزارتين لها تصورها بالنسبة إلى الآثار في بلاد الرافدين، وكل منهما تضغط بطريقتها على الهيئة للوصول الى مبتغاها. وكانت ميزانية الهيئة قد قُلصت بنسبة 80 في المئة في السنة الماضية. وتقول الجيلاني إن «مشروع تقسيم الهيئة الى إدارات مستقلة تابعة للمحافظة كان كابوس العالم العراقي الراحل أخيراً دوني جورج. فالمشروع لا يعكس مخطط تقسيم العراق الى فدراليات مستقلة، بل يشرذم تاريخه. فإذا باتت كل محافظة مستقلة في قراراتها، فمن يضمن مبادئ المحافظة على الآثار؟ من يخطط ويحدد آليات العمل والتنقيب وبرز القطع في المتاحف؟