تضيق الأوراق وصفحات الإنترنت ببعض الشبان الذين يلجأون إلى الجدران لتختزن قصص حبهم ويأسهم وانتماءاتهم. فالأفكار التي تخرج إلى العلنيّة تسعى إلى التعبير التلقائي عن حرية مطلوبة
هيثم خزعل
على جدار قديم في منطقة الليلكي، حط حُب شباب كفرحتى لقريتهم «شباب كفرحتى، كفرحتى حتماً». أما سمفونية «دولة القانون والمؤسسات» التي عزفت طويلاً، فأسقطت في فخها أحد الشبان الذي حدا به طنين الشعار إلى كتابته على حائط الأوتوستراد الذي يربط الجنوب بطريق المطار. في مكان آخر، ضرب الحب سهمه في قلب أحد العشاق فخرقه، وعندئذٍ رسم عاشقنا قلباً يخترقه سهم يحمل رأسه حرف «أ» وذيله حرف «ر».
هكذا يكاد لا يسلم جدار في المدينة من أسماء وشعارات متنوعة. وما يبعث على العجب الحميمية التي تولد بين الإسمنت الصلب والشبان التوّاقين للتعبير. شبان ضاقت بأفكارهم مساحة الأوراق وصفحات الإنترنت فلم يجدوا إلّا جدران الإسمنت على صَمَمِها حاضناً لقصص حبهم ويأسهم وانتماءاتهم، ومساحةً تعبيرية عاطفية، سياسية، واجتماعية.
وفي هذا الإطار، يصف حسن (21 عاماً) الشعارات التي كتبها على الجدران بالبصمة التاريخية لشاب مهمّش، «فجميع المارة سيقرأون الشعار ويحلّلونه ويرسمون شخصية صاحبه في عقولهم، وخصوصاً إذا كان الشعار خارجاً عن المسلمات». أما ربيع (18 عاماً) فيشير إلى أنّ الكتابة على الحيطان تختزن معاني ثورية تتمثّل بتشويه الأملاك العامة تعبيراً عن النقمة على السلطة. ويرى «أنّ الناس يستطيعون أن يكتبوا أو يرسموا ما يحلو لهم من دون قيود، وبالتالي فالجدران خير من الكتّاب والصحافيين الذين ينطقون باسم الشباب من داخل مكاتبهم المكيفة!».
لكن ماذا يقول علم الاجتماع عن هذه الظاهرة؟
يحدّد رئيس المنظمة العربية للترجمة، الباحث الاجتماعي، الطاهر لبيب، الهدف الأول من الكتابة على الجدران بتحويل الفكرة إلى العلنيّة. هذه الفكرة قد تكون ذات مضمون شعبي أو فئوي أو فردي، ولكنها في كل الحالات تسعى إلى الظهور في مظهر التعبير التلقائي أو المزاجي عن حرية متاحةٍ أو مطلوبة، على الرغم من التعبئة المنظمة التي قد تكون وراءها.
أما الجدران، فهي حامل مثالي لضمان العلنيّة، بأيسر الطرق، بحسب لبيب، فالنص قد يدوم عليها سنوات طويلة، وله أن يعود إذا محاه الزمن أو الآخرون، ثمّ إنّه لا مناص من قراءته، لكون العين تقع عليه، ولو عرضاً، ولا يمكن إهماله إهمال الكتاب أو الصحيفة، كذلك فإنّ الكتابة عليه لا تستوجب المرور بإجراءات النشر ولا آليات يصعب اقتناؤها. وأهم من ذلك كله أنّ الجدران لا تحتاج إلى معارف خاصة، بل تغفر لأصحابها كلّ أخطاء الكتابة.
ويرى لبيب أنّ الانطباع بالفوضى الذي يتولد لدى المارة قاصر إذا لم ينكشف عن الرهانات التي تقف وراء ما يكتب الناس أو يرسمون على الجدران أو الأشجار. فالرهان الأول، كما يقول، هو المواجهة العلنيّة لسلطة الدولة، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو عبر مواجهة قوى أخرى، من دون إذن منها. وطبعاً، فإن انهيار الدولة، كما حدث في الحرب الأهلية في لبنان، يفسح المجال واسعاً للتقاتل بالجدران. أما الرهان الثاني، فهو العبور من الحيّز الخاص إلى الحيّز العام، أي إلى تملّك الفضاء الذي يفترض أنه ملك الدولة. قد يبدو هذا الأمر عادياً في لبنان، لكنه غير وارد في بلدان أخرى، وخصوصاً في تلك التي تخاف تلقائية التعبير الشعبي. إنّ الجدران، كل الجدران، بما فيها الخاصة وحتى الداخلية، غير ملزمة إعلان ما يخرج عن السلطة ورقابتها، يقول لبيب، وهي لا تتحمّل، بصورة خاصّة، علنيّة النص أو الرسم وتستُّر «المؤلف» أو «الرسام». فما يُعد «صحيفة جدارية» منشورة في وضح النهار هو، في هذه الحالة، أكثر تحدياً واستفزازاً للدولة من صحيفة سريّة، على حد تعبيره.
ويؤكد لبيب أنّ قضايا التسيّب أو العبثية والمسّ بالجماليات والأخلاقيات في الكتابة والرسم على الجدران يجب أن لا تخفي دوافع اللجوء إليهما. وإذا كانت الحالة اللبنانية تبدو مفرطة، لانعدام آليات الضبط، وكانت، في المقابل، حالاتٌ للحرية فيها قنواتها وللسلوك المدني فيها انضباطه، فإنّ حالات أخرى، ومنها حالة العرب إجمالاً، لم تترك للفئات العريضة غير الجدران لتُسقط عليها خليط مطالبها وأوجاعها وأحلامها وأوهامها. ولن يكون الإنترنت بديلاً عن الجدار، لأنّ للكتابة أو الرسم على الجدران علنيّةً أكثر «واقعيّةً»، ولهما، عند المواجهة، رمزية «التكسير»، كما لهما، عند الاتصال أو الوصال، رمزيّة الثبات ضد العابر. وهو ثباتٌ إذا خاف الهدمَ لجأ إلى جذع شجرة ينمو معها!.
من جهته، يلفت المعالج النفسي الدكتور أحمد عياش إلى أنّ الكتابة على الجدران هي تعبير عن مكنونات متأججة نفسياً. ويتنوع مضمونها بحسب حالة الشبان النفسية. ويشير عياش إلى أنّ الجدار كان الوسيلة الأولى للتعبير، ويستشهد بمقطع من أغنية للفنان أحمد قعبور في السبعينيات «وتكتب أياديكم على الجدران»، ومقطع آخر من أغنية الفنان خالد الهبر «من أيامك يا بيي إيام الكتابة عالحيطان والمناشير». ويوضح أنّ الجدار يمثل مجانية في التعبير ويضمن نجاح إيصال الرسالة فيتلقاها الناس في أثناء مرورهم أمام الحائط ولا يحتاج مطلقوها إلى أن يوصلوها إليهم. ولا تعدّ هذه الظاهرة مدخلاً لمرض نفسي لمدمنيها لكنها تؤشر إلى ما يختزن في دواخل الشبان من صراع وتخبّط في أزمات نفسية وتمرّد على الواقع المفروض.


مخالفة قانونية