علاء حليحلفي تلك اللحظة خُيّل لي أنّ باريس عربية؛ الطاولة التي كنا نجلس إليها جمعت ثلاثة فلسطينيين، ثلاثة تونسيين ومصرية. جميعهم يعملون في قناة «فرنسا 24». أحدهم سكر سكرة شريرة وصار يخربط ويلبط في مقهى chic في المونبرناس، حتى خُيّل إليّ أننا في مقهى في شارع أبي النواس في حيفا أو في «السُّوك» في الناصرة. إلا أنّ سكرة الفرنسيين تظلّ أخفّ ظلاً، وعدد الجرحى يقترب من الصفر، لأنّ السكران كان يبرطم بالبونابرتية، ويلوّح بقبضته في الهواء من دون أيّ فعل حقيقي يمنحه لقب «رجل» أو حتى «غُلام»، يتفتف ويتوعّد بلغة رومانسية عذبة رغرغت لها عيناي.
لولا «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» لرفاعة الطهطاوي، لكنتُ أسهبتُ في الجغرافيا والطوبوغرافيا وخفايا البورنوغرافيا في متحف الجنس الباريسيّ. ولكنّ الذين سبقونا كتبوا ولخّصوا، فبقي لنا أن نتأمل ونتحسّر ونردّد ما ردّده بودلير على ضفاف السّين: «إنّ ذلك الذي ينظر من الخارج عبر نافذة مفتوحة، لا يرى مطلقاً كثيراً من الأشياء، كذلك الذي ينظر إلى نافذة مغلقة: فلا شيء أكثر عُمقاً وأكثر غموضاً، وأكثر خصوبة، وأشدّ عتمة، وأكثر إشراقاً من نافذة مضاءة بشمعة. ذلك أنّ ما يستطيع الإنسان رؤيته في الشمس يعدّ أقلّ إثارة للاهتمام دائماً من ذلك الذي يحدث خلف الزجاج؛ ففي هذه الفتحة السوداء أو المضيئة تحيا الحياة، تحلم الحياة، تقاسي الحياة».
هذا ما ردّدته لنفسي وأنا أدخل غرفة الفندق الصغيرة لأوّل مرة. مساحة هذه الغرفة لا تزيد بكثير عن «الطشت» العصري الكبير والمُرصّع بالكريمات الذي يستحمّ فيه جلالة الطفل عُمري بن عنان بن محمود آل حليحل، ابن أخي. ولكنّ العزاء يظلّ في كلام بودلير والتسامح الكبير الذي يجب أن تبديه كزائر لباريس: الملايين تريد زيارة باريس، ولذلك قرّر الباريسيّون تصغير الغرف في الفنادق الرخيصة.
أعتقد أنّ المترو هو أكثر الدلائل سطوعاً على التحضّر والتحدّث (معذرة على التسطيح). فإلى جانب التيسير في نقل عصب المواصلات الرئيس إلى ما تحت الأرض، فإنّ فكرة نقل عملية الانتقال من مرمى البصر إلى ما تحته، يضفي على العالم الفوقيّ قيمة لا يُستهان بها من الطمأنينة بأنّ جميع الذين فوق يمارسون الآن الحياة نفسها. أهو السبب في الاسترخاء اللانهائي الذي ينتابك على دكك المقاهي الصغيرة المدورة (إذا تجاهلنا ليتري النبيذ اللذين شربتهما خلال ساعتين)؟
ولكنّ باريس تقترب من تل أبيب، حيث عملية إيجاد شقة لغريب مهمة صعبة محفوفة بالإذلال والمهانة. كراهية الأغراب بدأت تتغلغل في النخاع الشوكيّ لدى «رومانسيي الأرض اتحدوا»، وعمليات التحايل والتهرب هنا، تذكرك بالقصص عن الصعوبة الكبيرة في أن يجد عربي مكاناً للسّكن في تل أبيب «الليبرالية الأوروبية».
ليلة الأربعاء ـــ الخميس كان عيد ميلاد الروائية هدى بركات. ستة أشخاص متحرجمون حول طاولات باريسية صغيرة، يتناولون شرائح اللحم والإوز والنبيذ والجعة، ويحاولون الربط بين الجليل ولبنان، ومعرفة ما إذا كان عرق فلسطين يضاهي عرق لبنان أم لا. اسمه مقهى «الفلاسفة»، ونحن أخذنا الموضوع بجدية، فانهارت التنظيرات والتطريزات، يميناً فيساراً. تمسك شلّ سارتر وابن رشد، مروراً بالشيخ الأكبر وانتهاءً بأسعار الوقود وعلاقتها بأزمة الفول في مصر.
في باريس يطيب الكلام، وتشعر بأنك إنسان عاديّ، يسهر بمرح ولا يحسب حساب الغد، مثل باقي البشر. باريس، ميرسي كتير لألله.