سعد اللّه مزرعاني *في البدء كانت حاجة الإنسان إلى إشباع مستلزماته المادية من مأكل وشراب ومأوى... وحول هذه الحاجة يدور الحيز الرئيسي من الصراع في هذا الكون: لجهة إنتاج المواد الأساسية، ولجهة الاستحواذ على وسائلها، ولجهة اختراع هذه الوسائل، ولجهة حماية هذه المواد وتلك الوسائل، ولجهة تسويق ما يفيض منها لتعزيز عناصر الإنتاج ولبناء عناصر القوة والنفوذ والسلطة في نظام علاقات ينظم، بدوره، حياة مجتمع في حقبة تاريخية معينة من مراحل تطوره وتبلوره واستقراره.
تُوصف هذه العملية غالباً، بأنها ذات طابع موضوعي وحيادي. وتبدو الدولة وسلطتها كأنهما فوق المصالح الفئوية لهذا الطرف أو ذاك، ولهذه الطبقة أو الفئة الاجتماعية أو تلك. تبدوان كأنهما تقضيان بالعدل بين أفراد المجتمع، ووفق نظم وقوانين ترتكز على مبدأي المساواة والإنصاف.
ليس هذا فقط، بل غالباً ما جرى توظيف التعاليم الدينية التي أتت بها الرسالات السماوية في خدمة هذه العملية. إن إسباغ صفة القداسة على الحاكم أو أنظمة الحكم، أو الاثنين معاً، هو أمر شائع إلى حد بعيد في أماكن كثيرة من عصرنا هذا. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي في مستهل تسعينات القرن الماضي، نشط أصحاب الاستنتاجات «الفكرية» والسياسية، ممن يرون أن العالم قد وصل إلى «مستقر له». الفيلسوف الأميركي ذو الأصل الياباني فرانسيس فوكوياما، رأى منذ عام 1989 أنه «لسببين مستقلين: الأول يتصل بالاقتصاد، والثاني يتصل بما يسمى الصراع من أجل نيل التقدير والاحترام، تمثّل الديموقراطية الليبرالية (اقتصادياً وسياسياً)، نقطة النهاية في التطور الإيديولوجي للإنسانية والصورة النهائية لنظام الحكم البشري». ويضيف: «وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ». ويقرر جازماً حاسماً، بعد ذلك: «من غير المستطاع أن نجد ما هو أفضل من الديموقراطية الليبرالية مثلاً أعلى». وفي امتداد هذا التفكير الذي يتبنى «حتمية تاريخية» نقيضة لتلك التي توصل إليها هيغل أو بشّر بها ماركس، قدم باحث أميركي آخر، هو صامويل هنتنغتون ناظماً جديداً للنزاعات والصراعات بمختلف أشكالها وأسبابها، هو النزاع والصراع و«الصدام بين الحضارات» (كتابه الشهير الصادر عام 1996 الذي حمل عنوان «صدام الحضارت وإعادة بناء النظام العالمي»).
نظّر هذان بكفاءة لا يمكن إنكارها للديموقراطية البورجوازية الليبرالية. لكن الكفاءة وحدها لا تكفي لإلغاء الحقائق الموضوعية. إنها تصلح في أحسن الأحوال لحجبها أو لتشويهها، فترة من الزمن!
مناسبة هذا الكلام ليست للأسف استئناف دور ونشاط «القوى الثورية والتحررية والتقدمية والديموقراطية العالمية»، من حيث انتهت (تقريباً) عام 1990، بانهيار قوتها الأساسية ونموذجها الاتحاد السوفياتي (ومعه تلقائياً، البنى التي أقيمت دون أن تبرّر بشكل كاف قيامها في بلدان الشرق الأوروبي).
المناسبة هي، ببساطة، ذلك الصراع الطبقي ــ الاجتماعي الذي يتبلور أكثر فأكثر، في مناسبات ومؤسسات وتجمعات وبيئات عبثاً تحاول «العولمة» ضبطها وإخضاعها. يحصل ذلك طبعاً رغم منطق أولئك الذين يحاولون إسباغ صفة أزلية على التفاوت الطبقي الصارخ، وعلى الاستغلال المفرط، وعلى العبودية الجديدة، سواء منها تلك التي تشمل شعوباً وحتى قارات بأسرها، أو تلك التي تستهدف، كما هو الأمر تقليدياً، مصالح فئات اجتماعية وطبقات محدّدة.
يواصل الرأسماليون في الواقع، العمل بشكل مكشوف من أجل هدف واضح ووقح: زيادة وتعظيم الربح، وممارسة وقوننة وشرعنة النهب، وتبرير تفاقم الفقر والتباين في المداخيل، إلى درجة تتجه باستمرار في عكس مبدأي الحرية والمساواة التي زعم فوكوياما أن الديموقراطية الليبرالية هي خير سبيل لبلوغها، رغم الأخطاء ورغم «القصور في التطبيق»، كما استدرك!
ويقع في مقدمة الأمثلة على ما نقول فشل المجتمعين في مدينة جنيف السويسرية بالتوصل إلى تفاهم على اتفاقيات جديدة بشأن المنتجات الزراعية والسلع الصناعية. لقد اجتمع هناك ولمدة تسعة أيام كاملة بين 21 و30 تموز الماضي، ممثلو 153 دولة بينها الدول السبع التجارية الكبرى (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، اليابان، الصين، الهند، البرازيل، أوستراليا)، وخرجوا بدون نتيجة. أما سبب الفشل، فيعود إلى رفض الولايات المتّحدة بعض إجراءات الحماية التي أصرت عليها دول مثل الهند وإندونيسيا، وهي دول تحاول منع انهيار تجارة مئات الملايين من مزارعيها الذين يعيشون حياة الكفاف والفقر.
وفي مثل آخر حذر الكاتب جميل الذياني في جريدة «الحياة» (الاثنين 4 آب الجاري) من حصول «ثورة جياع» في عدد من دول الخليج، بعد الاضطرابات التي شهدتها دولة الكويت (وقبلها إمارة دبي، وكلتاهما يتمتع مواطنوها بأعلى معدل دخل في العالم)! فماذا حصل في دولة الكويت؟ لقد تحرك بضعة آلاف من العمال الآسيويين (البنغاليين أساساً) للمطالبة بدفع رواتبهم التي تتأخر أحياناً ستة أشهر كاملة، علماً أن هذه الرواتب، بالنسبة إلى عمال النظافة، لا تتعدى المئة دولار أميركي! وماذا كان الرد: لقد طرد ألف من هؤلاء ليكونوا عبرة لمن اعتبر!.
نعود إلى ازدياد الهوة والتفاوت بين الشمال والجنوب، وبين الأغنياء والفقراء، وبين الدول الصناعية والدول النامية، وبين الرأسماليين والعمال... فقد أفاد التقرير السنوي لمنظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، أن دول الشمال الغنية «لا تزال ممسكة بعصب التجارة الدولية، إذ تتحكم في ثلثي الاقتصاد العالمي، علماً أن سكان الدول النامية والأكثر فقراً، يمثّلون 85 في المئة من سكان الكرة الأرضية».
لا يترك المجال لفقراء آسيا وأفريقيا خصوصاً لترتيب أولوياتهم على نحو يضع مسألة الجوع والفقر فضلاً عن الحرية والسيادة، في المقدمة. فهؤلاء يعانون فرض أولويات أخرى تتعلق بالصراعات الإثنية والطائفية وصراعات الحدود... إلى المذهبية الناشطة حالياً، كأداة من أدوات السيطرة في منطقة «الشرق الأوسط الواسع»!.
لم يؤدِّ انهيار الاتحاد السوفياتي إلى جعل العالم أفضل في ظل النظام الرأسمالي الليبرالي «خاتم بني البشر» كما وصفه فوكوياما. ولن يمنع القمع والإرهاب والغزو تحرك الشعوب من أجل حقوقها الاقتصادية والسياسية، كما حصل في أميركا اللاتينية. لقد فشلت صيغة من صيغ إيجاد بديل عادل لنظام الديموقراطية الليبرالية. لكن هذا الفشل لن يعني أبداً انتفاء الحاجة إلى النضال من أجل التغيير، ومعه من أجل بلورة صيغ سليمة للتحرر والحرية والديموقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية.
* كاتب وسياسي لبناني