عبد الله محمد دلوعلا أدري إن كان إغراء الكلمات سيمنحني القوة في هذه اللحظات لأكتب. فالورقة فارغة والدوائر التي رسمتها تكاد تملأها، ففي هذه اللحظة يجب أن تطبق الأفواه وتكسر الأقلام. فلا صوت ولا كلمات تخرج إلا من منابع الضمير والذكريات العميقة.... مات يوسف شاهين. سقطت كل الإشكالات التي أحدثها في حياته مع آخر نفس لفظه تحت سماء القاهرة التي أعطاها أكثر مما أعطته. مات «جو» الصديق المقرّب والحميم لكل الناس في الشوارع، لكل المحرومين والمقهورين. شاهين الإشكال بحد ذاته. قلب موازين السينما رأساً على عقب منذ فيلمه «باب الحديد». شاهين إشكال بحدّ ذاته. عندما حاول وظلّ يناضل من أجل إخراج السينما من النمط التقليدي والقالب الذي وضعت فيه، فكانت سينما نمطية لدرجة أنها لا تحتاج إلى مخرج ولا إلى مؤلّف فالقصص جاهزة، فقط مجرد حفظ الأدوار وتسميعها ساعة التصوير.
شاهين المدخّن الشّره والمتمرّد على نصائح الأطباء. وقع شاهين وتمرّدنا نحن على المنطق الذي يقول إنه كان على حافة الموت. تمنينا أن تنهار كل نظريات المنطق ويبقى صامداً بوجه القدر. دماغه المتّقد بالأفكار، بالأحلام، بالأمنيات بصورة أفضل للحياة جعلته يتمرّد على كل المظاهر النمطيّة التي كانت أشبه بالمقدّسة. بدايةً بالأفلام، وانتهاءً بالسياسة، مروراً بنقده أم كلثوم التي كانت هالة مقدّسه لا أحد يستطيع الاقتراب منها وانتقادها، وكذلك على بعض ممارسات النّظام أيام عبدالناصر والوصوليين الذين تسلّقوا وبدأوا يمارسون سلطة جانبيّة أرهقت شاهين العاشق الكبير لعبد الناصر ككاريزما. ظلّ شاهين وفيّاً لتجربة عبد الناصر والثورة، ولكنّه لم يعد باستطاعته تحمّل ما فعله الوصوليون داخل النظام وتسبّبوا في الهزيمة. هاجر مفلساً كما كان في معظم أيام حياته يجمع قرشاً واحداً ويخرج به فيلماً، لكنه ظل عاشقاً لشخصية عبد الناصر. فهو الذي صوّر وأخرج مشاهد جنازة عبد الناصر أيلول 1970.
هاجر إلى لبنان وأخرج إحدى أهم روائعه مع فيروز والرحابنة (فيلم بيّاع الخواتم). في أحد لقاءاته عندما سئل عن فيروز صدرت منه كلمة (آه) مختزنة في ثناياها العشق والذكريات والحب والوطن والمنفى. ظلّ متمرداً إلى درجة مطالبة بعض سياسيي عهد الانفتاح وما بعده في أوائل التسعينيات بإسقاط الجنسيّة المصريّة عنه وسحب جواز سفره منه.
يوسف شاهين المهاجر كعصفور فوق الأرض هو المخرج الوحيد الذي استطاع إيصال صوت العرب سينمائياً إلى الخارج، عاشق الرقص واللحن والموسيقى. بمعنى آخر عاشق للحياة خذلته ردحاً طويلاً من الزمن وظلّ يعشقها حتى أسلم الروح.
مين اللي بيبيع الضمير ويشتري فيه الدّمار؟ هاجرت يا شاهين وتناسينا الإجابة عن هذا السؤال...