عبد الأمير الركابي *قبل الغزو الأميركي للعراق، كان جماع القوى العراقية الفاعلة قد توزع على جبهتين؛ النظام في جهة، والقوى المتحالفة مع الولايات المتحدة في الجهة الأخرى. قبلها، ومنذ ما بعد عام 1968، كان الصراع الإقليمي هو محرّك توجهات المعارضة العراقية. وكان الموضع الرئيسي لوجود تلك المعارضة وعملها هو دمشق، وبحدود ما، إيران وبعض البلدان العربية. العداءات المستحكمة بين نظام صدام حسين والمحيط الإقليمي والعربي، وذروتها الحرب العراقية الإيرانية، كانت توفّر أساس مواقف المعارضة وخططها ضدّ النظام، ولم يكن لدى أيّ من هذه القوى تصوّرات خاصّة، كما أنّه لم يحدث أن بلورت استراتيجية ما، وظلّ الفقر الفكري والسياسي متحكّماً بتلك القوى (لم يصدر عنها، على تعدد تياراتها وعمر منفاها المديد، كتاب واحد، أو بحث يستحق الاهتمام، أو يمكن أن يساهم في الانتقال بالرؤية الوطنية من خانة الإنشاء والبيانات، خطوة واحدة)، ومستوى قياداتها الثقافي والسياسي متدنٍّ إلى أبعد حدّ، وموضوعاتها دعاوية، وتتركّز بلا ملل عند شعار وحيد هو «معاداة الحكم الدكتاتوري، والسعي لإسقاطه».
هذا الوضع على الإجمال، يعكس واقعة يصعب تفسيرها خارج السياق الطويل للأزمة الوطنية، المستمرة منذ الخمسينيات، التي تجسدت لاحقاً اضطراباً وفوضى ـــ غياب نسبي للدولة ـــ بعد ثورة تموز 1958. فتراجع التعبير الوطني، وتوقف تطابقه مع متطلبات الواقع، تمثّل وقتها عبر تداخلات الحدث الذي أسقط الحكم الملكي فجر يوم 14 تموز 1958، وبالذات في اللحظات اللاحقة على الحدث التاريخي المذكور، عندما بدأ العراق يعيش من دون حركة وطنية فاعلة، ومن دون دولة تكون تعبيراً بالحدّ الأدنى عن النصاب الاجتماعي.
خلال ثلاثين سنة فقط، قامت الحركة الوطنية المعاصرة وانتكست انتكاستها النهائية. فبعد ثورة 1920 العامة وقيام «الدولة الحديثة» على أنقاض الثورة، تصاعد منذ الثلاثينيات زخم التحوّل في الأفكار وتغلغلها في الواقع وتجسدها الفوري في أحزاب وتيارات، بوتائر فائقة السرعة. وظهرت تيارات جديدة خارج الدولة المقامة في ظل الاحتلال، وضدّها بصورة قاطعة، استوعبت جماهيرياً كل الزخم المجهض والمقموع لثورة العشرين.
وأوّل تلك التيارات كان الحركة الشيوعية، التي غدت خلال الفترة بين الثلاثينيات وأواخر الخمسينيات، حزب الوطنية الأول والأكثر جماهيرية ونفوذاً. أما التيارات القومية، فبدأت منذ الخمسينيات تغادر الصيغ القومية العروبية العراقية (حزب الاستقلال بقيادة محمد مهدي كبه) إلى الصيغ العربية، حتى تمثلت في قوة قيادية رئيسية استقرت على حزب «البعث». والقوى الليبرالية ممثلة بتيار «الوطني الديموقراطي» (تحوّل في نهايات حياة كامل الجادرجي في الستينيات إلى تبني أفكار الأممية الثانية) تتمتّع بحضور أدبي أكثر مما هو جماهيري.
يومها كانت الحركة الإسلامية تعاني تراجعاً، بعد المآل الذي انتهت إليه ثورة العشرين وقيام «الدولة الحديثة»، واستخدامها المنظم الخطاب التمديني والتنويري.
عاشت الدولة الحديثة الملكية المرتبطة بالاحتلال عمرها تخيم عليها الاستحالة. ظلت معزولة، والاستقطاب الاجتماعي والسياسي يتعاظم، محوّلاً المعارضة إلى قوة كاسحة، والحكم يترنّح، ويعجز عن تأمين الحدّ الأدنى من الاستقرار، والحكومات تتغيّر بمعدّل وزارة في كل ستة أشهر، والانتفاضات والإضرابات في الأرياف والمدن لا تتوقف. كان سقوط ذلك النظام أمراً لا يمكن تحاشيه أبداً. وفي 14 تموز 1958، انهار واجتُثّ من جذوره. اقتلع هو وآخر قواعده الاجتماعية في الريف والمدينة. والحياة ألقت فجأة بالمهمة على «المجتمع السياسي» الذي كان خارج الدولة، وضدها، وتحول بين ليلة وضحاها إلى الواجهة، وإلى تحمل مسؤوليات إقامة النظام المطابق للخصائص الوطنية والتاريخية. وهنا كانت الحياة قد رفعت السؤال التاريخي كما يرفع السيف: فإما الارتقاء إلى مستوى متطلبات الحالة الناشئة بعد الثورة، أو الانتكاس والعجز عن مواكبتها.
والذي حصلنا عليه هو الخيار الثاني. كل القوى التي نشأت منذ الثلاثينيات، ووقفت على رأس قيادة المجتمع، ومثّلت تطلّعاته، ألقت الراية أمام قلعة الصيغة أو الرؤية الوطنية المطابقة: الحزب الشيوعي اختار التدرجية والعمل من خلال الدولة والوصايا «الأممية»، وأصدر بيانات توبّخ الجماهير على تفلّتها (بيان صادر عن اجتماع اللجنة المركزية عام 1959). فيما اختار «البعث» الانتقال النهائي من احتمال التحوّل إلى قوة قومية شعبية، إلى حزب سلطة فوقية وإكراهية. وقد مرّ خلال السنوات العشر بين 1958 و1968 بجملة من التحويرات، وخاض معارك، وتقلبت بنيته التنظيمية، حتى انتصر تيار صدام ـــ البكر. وتيار حزب الدولة في زمن «دولة نفي الاستحالة» التي سيقيمها الحزب المذكور منذ عام 1968، كان بهدف سحق الخاصيات الوطنية الأساسية والتاريخية وعلى حسابها.
بينما التيار الليبرالي تضاءل، فاقداً حضوره في غمرة الصراعات وطغيان منطق الانقلابات. كانت ثورة تموز هي الاختبار، وهي لحظة إعلان سقوط الحركة الوطنية المعاصرة 1930/1960 أمام متطلبات الواقع التاريخي وتحديات تحقق الدولة /النظام المطابق.
والتاريخ اللاحق سيكون سجلًّا لمأساة كارثية بلا توقف، ولصيرورة من حتمياتها الموجعة أنها تمرّ عبر سلسلة من الكوارث وصولاً للكارثة الأكبر. هنا تتمثل خصوصية عراقية، فلا شبيه في تاريخ المنطقة المعاصر لتجربة العراق القريبة، في حدّتها وثرائها وديناميتها ونهايتها الكارثية المروّعة. نعلم أنّه البلد الوحيد في العالم الذي أُعيد إلى السيطرة الاستعمارية المباشرة، وانهارت فيه الدولة الحديثة وسُحقت بعد 82 عاماً من قيامها، وبعد 71 عاماً على استقلالها، كأوّل دولة في المنطقة تدخل عصبة الأمم عام 1932. والفاعل الداخلي في تلك المسيرة مغيَّب، مع أنّه يتمثّل في تصادم التعبيرات «الوطنية» المستعارة من العصر الحديث، كما من الماضي، مع حقائق البنية التاريخية، وتحديداً مع خاصيات التشكيل المركب للدولة والنظام، كما تحقّقت في التاريخ العراقي عبر الدورات الحضارية الأولى العراقية، والثانية الإسلامية العباسية.
تحقّق الغزو الحالي عام 2003 على خلفية معارضة لا تتوانى عن تدمير الغابة من أجل قتل الوحش، ونظام أقيم على قاعدة وشرط حكم المجتمع بسحق خصائصه التاريخية. كان صدام حسين يقول «جئنا لنبقى»، مأخوذاً بهاجس الاستحالة الذي عانت منه الدولة الملكيّة وكل دولة فوقانية في تاريخ العراق. وبدل تلك الاستحالة، كان هو ونظامه يؤسّسان استثناءً كارثياً محوره السعي إلى «نفي الاستحالة»، التي تعني نفي المجتمع وسحق خاصياته.
هل هذا النهج هو الذي كرّس النزعة المعارضة المقابلة، الجرداء، الجزئية، المأخوذة بهدف وحيد أعمى، والتي لا تتحرّج من التحالف مع الغزو الأجنبي والحكم تحت رايته؟ من تلازم الاثنين جاءت الكارثة وكل الكوارث. والآن الآلية نفسها مستمرة، لا الذين يحكمون تحت راية الاحتلال يعلمون ماذا يفعلون، ولا بقايا النظام تملك رؤية وطنية للمواجهة. الطرفان يأخذان البلاد إلى مزيد من الموت، بانتظار موتهما النهائي الوشيك، حتى اليوم الذي تتحوّل فيه مرارة التجربة إلى وثبة في الروح والعقل، ويبدأ العراق بالنهوض مؤسساً لرؤيته الوطنية ما بعد العصرية.
القوى التي تملأ الواجهة اليوم، هي قوى الموت والكارثة الفاقدة للقرار. وصحيح أنّ فعلها المدمّر قد طال، لكنّها ماتت منذ أن سلّمت البلاد للكارثة، والعراق اليوم «بكر» بلا دولة ولا معارضة حيّة أو فاعلة تاريخياً... لنتطلّع إلى ما وراء الأفق، ثمة إشارات تنمو.
* كاتب عراقي