ريمون هنودكان لتظاهرة أيار من عام 1931 الأثر الكبير وقتئذٍ لتسليط الأضواء على كوكبة من شيوعيي طرابلس. تظاهرة انطلقت في طرابلس بدعوة من منظمة الحزب الشيوعي احتجاجاً على إعدام السلطات الفاشية الإيطالية المناضل الوطني الليبي المجاهد عمر المختار، ورفض اغتصاب إيطاليا الفاشية الموسولينية لليبيا العربية بالوحشية وسفك الدماء. التظاهرة كان يقودها عدد من الشيوعيين الشجعان، في طليعتهم الشاب الشيوعي نقولا الشاوي الذي أضحى بعد فترة وجيزة من الزمن الأمين العام للحزب. قامت السلطات الفرنسية بحملة اعتقالات واسعة بين الشيوعيين. ومن أبرز المعتقلين أحمد زكي الأفيوني
، الشاب الطرابلسي الثائر الذي توجّه في بدايات شبابه إلى العلوم الدينية ولبس العمامة لفترة، ولكنه عاد واختار طريقاً آخر لنضاله وانتمى لاحقاً إلى الحزب الشيوعي.
أما الشاوي، فقد تأثّر جداً بهذه التظاهرة وكان لا يزال شاباً لم يبلغ العشرين من عمره، ولم يكن قد انتسب بعد إلى الحزب الشيوعي. وهذه التظاهرة أثّرت عليه تأثيراً شديداً جعله يعشق الشيوعية والشيوعيين وينتمي إلى الحزب، وخاصة أن الاعتقالات التي قامت بها السلطات الفرنسية أثارت ضجة احتجاجات كبيرة، وجرت بحق المعتقلين محاكمة شهيرة، اضطرت المحكمة إلى تبرئة عدد منهم، وأصدرت أحكاماً مخفّفة على عدد آخر، وقد أنزلت أقصى الأحكام بأحمد زكي الأفيوني وأركان الحزب أمثال محمد الأدهمي، سهيل بغدادي وهاشم سركيس.
ولكن مَن أسهم عملياً في إنضاج فكر نقولا الشاوي ودفعه في اتجاه الماركسية والحزب الشيوعي، هو كاتب وأديب ومناضل طرابلسي اسمه سليم خيّاطة، وأضحى نقولا الشاوي في ما بعد كاتباً سياسياً عريقاً ومناضلاً لبنانياً عربياً أممياً، وأنجز العديد من الأعمال الفكرية والكتابات، وأجمل كتبه كان تحت عنوان: «طريقي إلى الحزب». ويروي الشاوي في هذا الكتاب حكايات لقاءاته مع عدد من الشيوعيين الطرابلسيين الأوائل، ومنهم نعيم الأفيوني الذي انتسب إلى الحزب في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، وصار في ما بعد سفيراً للبنان في موسكو، ولكن غير المعروف عنه، يضيف الشاوي، أنه عمل في جهاز سري للحزب حين كان يطبع المنشورات السرية للحزب على ماكينة الرينيو، ولم تستطع الأجهزة الخاضعة للانتداب الفرنسي كشف سرّه، لا قبل أن يلتحق بأجهزة النشاط الدبلوماسي للدولة اللبنانية ولا بعده.
ويرسم الشاوي صورة طريفة عن أحمد زكي الأفيوني الشيوعي الشاب المتحمس منذ أواخر العشرينيات. ففيما كان سليم خياطة يحاور الشاوي بلغة العقل والمنطق، كان الأفيوني يجادله ويحادثه بلغة أخرى، لغة العاطفة والقلب والحماسة. ويورد الشاوي في سيرته هذه بكل الحب والتصوير الدقيق أسماءً عديدة من شيوعيي طرابلس الأوائل خلال ثلاثينيات القرن الماضي، منهم: عبد الله فلاح، عبد الله الرافعي، سهيل الترسيسي، نعمة قاروط وجورج ساعاتي.
ومن الأخبار التي رواها المناضل الشيوعي عبد الله فلاح عن تلك المرحلة أن رجال الأمن ألقوا القبض على المثقف سليم خياطة واقتادوه إلى مبنى الأمن العام، حيث أوسعوه ضرباً على رأسه، مما أحدث ارتجاجاً في جهازه العصبي، فأضحى عاجزاً عن تحمّل مسؤولية المنظمة التي كان يقودها. ويضيف فلاح: لا أتطلع برومانسية إلى ذلك الزمان. فلاح وهو يتكلم في ستينيات القرن الماضي يضيف: أدعو شباب أيامنا هذه إلى التعرف على الابتكارات النضالية لأسلافهم هؤلاء، أدعوهم إلى ابتكارات نضالية معرفية جديدة، إبداعية ومعاصرة، عقلانية تستوفي شروط هذا العصر، وصياغة أشكال نضالية من قلب التطورات العلمية الحديثة للنضال في سبيل التغيير في اتجاه نظام ديموقراطي جديد للعدالة الاجتماعية، وبذلك نحقق بعضاً من إصلاح ذلك الاشتراكي الطليعي العريق ابن طرابلس العروبة: فرح أنطون.