مأمون ملاعبفوجئ معظم اللبنانييون في ختام كلمة دولة الرئيس حسين الحسيني في مجلس النواب وتمنّوا لو كان في مرحلة قادمة، لكن ما يتبيّن لنا وما يعرفه المتتبّعون العاقلون هو أن معظم السياسيين في لبنان ومعظم الأحزاب والتيارات والتكتلات تسير خبط عشواء حسب الظروف والتطوّرات والتأثيرات في غايات مؤقتة متقلبة وماضٍ ملبّد منسي، وإن أصعب ما نعترف به هو أن لبنان السياسي تحت كل إدعاءات التقدم والحضارة هو بلد متخلف جداً ومن أكثر دول العالم تخلفاً.
إن ما قاله دولة الرئيس هو أننا أقمنا الوطن ولم نقم الدولة التي تحمي الوطن. وقد استند إلى مجموعة من المواثيق والقرارات الصادرة عن الطوائف الإسلامية التي تعرّف بلبنان كوطن نهائي لجميع أبنائه لتلاقي ضمناً الطائفة المسيحية حاملة هذا المطلب بعودة إلى الميثاق الوطن في مرحلة القبول بالدولة والاستقلال. وإن مواصفات الدولة المنشودة هي التي تقبل وتعمل على أن لبنان سيد حر مستقل عربي مؤمن بقضايا المنطقة ومنفتح على العالم (وهي مواصفات تجمع مطالب الطوائف المسلمة والمسيحية). وإن أهم ما في الأمر هو أن عدم قيام مثل هذه الدولة أدى إلى حالات الإنفجار والحروب الأهلية وإلى حالة ما وصلنا إليه في الفترة المنصرمة، وإن الحكومة بتشكيلتها المتناقضة بعودتها إلى نظام القضاء الانتخابي، قد تنتج الطبقة السياسية نفسها وتبقي الوطن بخطر.
إن ما فات دولة الرئيس هو أن الوطن لا يبنى بالقرارات والمواثيق، وكذلك لا يبنى بالشراكة، إنه حالة انتماء طبيعية وحاجة إلى أبنائه في تأمين مصالحهم وتطلعاتهم وصون حياة كريمة. وما فات دولته الجواب عن سؤال لماذا لم نستطع حتى الآن تأمين الدولة المنشودة؟
صحيح أن الطبقة السياسية مسؤولة وأنها دائماً تسعى للبقاء في السلطة عبر قوانيين وأساليب تؤدي لهذا الغرض. وصحيح أيضاً أن عدم إلغاء الطائفة السياسية سبب والشكر لدولته على كل الإيضاح، فهل هذا كل الجواب. الصحيح يا دولة الرئيس أنّ الأمرين متلازمان. نحن لم نقم الوطن! من كان يعنيه الشريط الحدودي أرضاً وشعباً قبل التحرير؟ كيف تعامل جزء كبير من اللبنانيين مع العدوان في تموز 2006؟.
كيف قوّموا النتائج؟ من حملوا مسؤولية الحرب والخسائر؟ كيف تعاطوا مع النازحين ومع المتضرّرين؟ هذا الأمر لا يتعلق بالسياسيين فقط بل بشرائح من الناس تحوم حول السياسيين وخلفهم. لقد تعامل شعب لبنان مع اجتياح 1982 (وكان مستعداً لو جرى اجتياح 2006) بأبشع مما تعامل شعب العراق مع الاحتلال الأميركي فئة مقاومة، فئة مهاونة، فئة مؤيدة وفئة مواكبة!
كيف تعاملنا مع الوجود السوري: شعب واحد في بلدين؟ أشقّاء؟ أعداء واحتلال؟ كيف ننظر كشعب إلى فلسطين والمقاومة وإلى إسرائيل...؟ أليست إسرائيل جاراً جغرافياً؟ لبنان الوطن بشبعا أو بدونها؟ بجنوبه أو بدونه؟ أليس لبنان في التاريخ القريب هو المتصرفية والقائمقاميتين والإمارات في الجبل؟.
ماذا لو جرى التقسيم أو اللامركزية السياسية أو...؟ هل نحن فعلاً نمثل حالة وطنية وانتماءً واضحاً لوطن؟.
إنّ ما يمنع أن يكون لبنان دائرةً انتخابية واحدة إشكاليّتان: الأولى تتمثل بإنتاج الطبقة السياسية والثانية بالديموغرافية الطوائفية. هل يعقل أن تنتخب الأكثرية المسلمة النواب المسيحيين؟ هل يعقل تذويب الأقليات سياسياً من أرمن وعلويين وَ...؟
إذ كنا جميعاً لبنانيين فلا ضير في ذلك، لكننا طوائف متفرقة ومتشاركة الوطن والدولة. الوطنية هي وعي انتماء، وعي إرادة، وعي مصلحة، بينما نحن أجزاء وانتماء طائفي عشائري سياسي ومصالح متضاربة.
نعم يا دولة الرئيس، إنّ الأمر لمحزن. نحن لم نقم إلا دولة الفساد، دولة تقاسم المكاسب اللاشرعية، دولة استغلال المواطن، دولة القضاء السياسي واللاعدالة.
إنه لأمر جداً محزن أننا كنا كذلك ونبقى اليوم. لكننا الآن في غمرة الصراع، إنه صراع الوجود: أن نكون شعباً حضارياً متمسكاً بثقافته وتاريخه ومتطلّعاً إلى مكانه بين شعوب العالم أو أن تكون إسرائيل.
فإذا ما انتصر مشروعها سنكون فتاة لا قيمة وجودية لها سوى لحمل الآلام والأحزان. نحن في غمرة الصراع وما يعيق وجود الوطن والدولة هو استمراره.
فإسرائيل دولة لليهود تريد أن تجاور دولاً للمسيحيين والسّنّة والدروز والشيعة والأكراد وَ...
ويجب أن تكون تلك الدول ضعيفة واهنة تدور في الفلك الصهيوني. نعم هذا هو الصراع حتى في الداخل بين من اتّخذ من إسرائيل عدواً، ومن سار بقصد أو بغيره مؤيداً للمشروع الصهيوني معادياً لشريكه وجاره في انتماء سياسي منحرف.
نحن في غمرة الصراع وعلى المقلب الآخر. أحزاب كبيرة تقلصت وأخرى خرجت من الوجود السياسي.
رجالات سياسة وإقطاع قد تقزّموا أو رحلوا: خيارات جديدة تغطي الساحة السياسية. وعي وإرادة حديدية، سواعد جبارة قهرت إسرائيل، عليها أن لا تتراجع بدورها في حسم الصراع وبناء الوطن والدولة.