هيثم خزعلفي بلد تمثّل الأرقام هوية وسائل النقل العام كالباص والميني باص والبوسطة، تكتسب الرحلات الرقمية المكوكية نكهة خاصة. فهي جزء من يوميات كل «مواطن بلا سيارة». رحلاتي اليومية مرسومة بين حدود الأرقام 4، أو 12 و3 والمغامرات الشيقة والمعارف الكثيرة التي أكسبني إياها التنقل على خريطة الأرقام العابرة لأحياء العاصمة وضواحيها. بت آلف بعض الوجوه وأحفظ محتوى اليافطات في الأحياء، وأوتوماتيكياً صرت أربط صور السياسيين التي تتصدر بعض الشوارع وأسماء بعض المحال بمطب أو حفرة في الطريق. أخيراً ارتبطت بموعد في منطقة الجديدة، فاستقللت الباص رقم «6»... أخيراً سيتلاشى الروتين الرقمي والمناطقي. وصلت صباحاً إلى المشرفية، عيناي تراقبان بلهفة أرقام الباصات المقبلة من الكولا. وإذ برقمي المنتظر يتصدر بوسطة قديمة الطراز انقرضت مثيلاتها عن مسرح الطرق اللبنانية. ازدادت لهفتي للرحلة، فقد أيقظت ذكريات قديمة لرحلات قمت بها في بوسطات مشابهة. تتقدم البوسطة، يصعد الركاب وترسم أعمارهم وأزياؤهم وجنسياتهم المختلفة مشهداً بانورامياً متنوعاً: فتاة تضع سلسلة يتدلى منها صليب، ومسنّة ترتدي التشادور، وعامل سوري وآخر مصري وسيلاني، وعجوز يحكي اللغة الأرمنية!
تتابع البوسطة تقدمها وتبدأ المشاهد بالتبدل. فهنا صور السياسيين جديدة، كذلك محتوى اليافطات وألوانها. تراقب التبدل من شباك البوسطة بفرح، لكن عقلك يبدأ بتعداد اليافطات تلقائياً وفرزها ضمن خانة «الحليف» و«غير الحليف» ليرصد تقلبات البارومتر السياسي في المناطق التي تجتازها البوسطة. في الجديدة. تهم بالنزول ومزاجك يتأرجح بين الرضى على تجاوز الروتين اليومي وجمال المشهد داخل الباص، والقلق من كسر المألوف. وكأنك لا تشعر بالأمان سوى في سجن صورك المعتاد!