ياسين تملاليوتبلغ قيمة التعويضات التي ستصرفها إيطاليا للحكومة الليبية تكفيراً عن جرائم هذه الفترة 5 مليارات دولار. وقد سرّ «قائد ثورة الفاتح من سبتمبر»، العقيد معمر القذافي، أيما سرور بالاعتذار والتمثال وما رافقهما من أموال، ولم يتردّد في وصف «الكافالييري» الشوفيني، سيلفيو برلوسكوني، بـ«الرجل الشجاع القادر على صنع التاريخ»، مؤكداً أن صفحة الماضي طويت وأن «إيطاليا الحديثة بلد صديق، يختلف كل الاختلاف عن إيطاليا الحقبة الكولونيالية».
ما كان من خيار لإيطاليا، الراغبة في توطيد مواقعها الاقتصادية في مستعمرتها السابقة، سوى طلب الصفح عن جرائم ماضيها الاستعماري الكالح السواد. وما كان من خيار لسيلفيو برلوسكوني، بالرغم من بغضه العرب والمسلمين واقتناعه الراسخ بـ«تفوق الحضارة الأوروبية» على حضارتهم، سوى الانحناء إجلالاً لضحايا الجنرال غرازياني، قامع المقاومة الليبية الهمجي. «السياسة فن الممكن»، كما يعلم الجميع، والاعتذار لليبيين كان أحد شروط الجماهيرية لتوقيع «معاهدة صداقة وتعاون» مع إيطاليا، أهم شركائها التجاريين على الإطلاق.
وكانت محادثات «المصالحة التاريخية» بين إيطاليا وليبيا في بنغازي دليلاً على أن كل شيء في عالمنا المعاصر بضاعة تباع وتشترى، بما في ذلك البشر وتاريخهم وآلامهم، إذ اتفق معمر القذافي وسيلفيو برلوسكوني على تحويل مآسي الليبيين تحت نير الاحتلال الأجنبي إلى استثمارات ـ نعم إلى استثمارات ــ فيما يُعدّ تطويعاً أصيلاً لإحدى تقنيات الرأسمالية العالمية، وهي تحويل الديون الخارجية إلى مشاريع استثمارية.
وفي هذا الإطار، اتُّفق على أن يُصرف جزء كبير من التعويضات على إنشاء طريق سريع يربط شرق القطر الليبي بغربه. وانتهت محادثات بنغازي بتوقيع «معاهدة الصداقة والتعاون» التي ترسّخ الحضور الإيطالي في الكثير من قطاعات الاقتصاد الليبي كالبنى الأساسية والسكن وبالطبع، في قطاع المحروقات الاستراتيجي.
ماذا ستجني ليبيا من هذه المعاهدة ومن اعتذارات سيلفيو برلوسكوني إليها؟ لا شيء تقريباً، سوى الزهو بأنها إحدى الدول النادرة التي أجبرت مستعمرها الأسبق على التكفير الرمزي عن جرائمه. لن تجني منها شيئاً ملموساً يذكر، فهي دولة ثرية، وليست بحاجة إلى رساميل أجنبية، لا لإنشاء الطرق ولا لبناء الثُكن ولا للتنقيب عن البترول والغاز.
ومن الواضح أن إثيوبيا ــ التي اقترف فيها الاحتلال الإيطالي هي الأخرى مذابح مريعة لا يذكرها أحد ــ أحوجُ منها بكثير إلى استثمارات حكومة برلوسكوني. لكن إثيوبيا ليست دولة بترولية ولا دولة غازيّة ولا أحد أهم شركاء إيطاليا التجاريين.
أما مكاسب إيطاليا من هذه «المصالحة التاريخية» فكثيرة، وأقلها شأناً الإشادة الدولية الكبيرة بشجاعتها الأدبية. وقد لخص برلوسكوني أهم هذه المكاسب في ما يأتي: «سنحصل على مهاجرين سريّين أقل وعلى غاز وبترول أكبر».
لا أبلغ من هذه الجملة لوصف فجاجة قائلها، ولا أصرح منها في التعبير عما يأمله «الكافالييري» من صديقه الجديد، معمر القذافي: استقرار واردات إيطاليا من المحروقات (25 في المئة من استهلاكها النفطي ليبي و33 في المئة من استهلاكها الغازي) وصدّ موجات المهاجرين السريين التي تغزو شواطئ بلاده انطلاقاً من ضفاف المتوسط الليبية.
وللتذكير، فإنّ مسألة «مكافحة الهجرة السرية الأفريقية» تحتل منذ سنوات موقعاً مهمّاً في جدول المحادثات السياسية بين البلدين.
وقد كشفت «معاهدة بنغازي» تهافت «سياسة القذافي الأفريقية» ووضعت حدّاً لتأرجحه شبه السكيزوفروني بين «مصالح ليبيا الاستراتيجية في منطقة ساحل الصحراء» وإيديولوجية «ليبيا لليبيين» وما تحمله من «عداء للأجانب» استشرى في المجتمع الليبي بشكل مخيف. وستُمنح ليبيا بموجبها تجهيزات متطورة تساعدها على تأمين حدود أوروبا البحرية الجنوبية، ومنها رادار ــ موّلته الحكومة الإيطالية بالاشتراك مع الاتحاد الأوروبي ــ سيسمح لها بحراسة تخومها الصحراوية بصورة أكثر صرامة.
وتأمل إيطاليا بعد توقيع المعاهدة تفعيل اتفاق وُقّع عام 2007 يقضي بتنظيم دوريّات مشتركة بين حرس السواحل الليبيين والإيطاليين لتعقب قوارب المهاجرين اللاشرعيين المتوجهة إلى جزيرة لمبدوزا أو منعها من الإقلاع من الشواطئ الليبية.
ويبدو مؤكداً أن إحدى نتائج «المصالحة الليبية الإيطالية» ستكون تدهور وضع المهاجرين السريين (وخصوصاً منهم الأفارقة السود) في الجماهيرية، فالسلطات الليبية معروفة بشراستها في التعامل معهم، ولا أدل على ذلك من حملات الترحيل القسري التي تشنها عليهم بصورة دورية ومن تقاعسها عن محاكمة عشرات الليبيين ممن تورطوا في قتل المئات منهم في «أحداث الزاوية» العنصرية (أيلول 2000).
بعبارة أخرى، فإن إحدى العواقب اللامباشرة لتكفير برلوسكوني الرمزي عن جرائم الجنرال غرازياني ستكون اقتراف جريمة كبرى في حق هؤلاء المهاجرين، لا بأيدي الإيطاليين النظيفة طبعاً، بل بأيدي أحفاد عمر المختار.

* كاتب جزائري