دينا حشمت *ظهرت في مصر أخيراً حملة إعلانية جديدة لا بدّ من أن تصادفها أينما ذهبت. إن لم ترَ الإعلان على الشاشة الصغيرة، فسوف تسمعه في الإذاعة. وإن لم يكن لك هذا الحظ، فسوف تراه لا محالة على أعمدة أكبر كباري القاهرة، من مصر الجديدة إلى الجيزة. وإن لم ترَ تحت يافطة «احسبها صح تعشها صح» صورة «عم صالح» وشعاره «السجاير قلّلها، والثلاجة قسّطها»، سوف ترى صورة أربعة شباب في سيارة واحدة تحت شعار «الشباب دول جيران وأصحاب، ركبوا مع بعض، وفّروا البنزين ومسليين بعض». والمقصود واضح: بدلاً من الشكوى المستمرّة من غلاء الأسعار، وتبذير مالك وصحّتك في السجائر، يستحسن أن تفكّر «إيجابياً»، وتوفّر ثمن السجائر لشراء الثلاجة المأمولة. وبدلاً من الشكوى المستمرة من ارتفاع أسعار البنزين، يستحسن أن تبحث دائماً عن الجوانب المُضيئة في القضايا المظلمة، وتكتشف كيف يمكنك أن تستغل رفع أسعار البنزين لتغيّر حياتك وتنظّم تنقلاتك اليومية مع أصدقائك من أجل تقسيم سعر البنزين معهم. هكذا تساهم أيضاً في حلّ أزمة احتقان المرور في القاهرة، وبالمرة تتخلّى نهائياً عن تطلّعاتك البورجوازية الفردية في امتلاك سيارة وغيرها من الأشياء التي يمكن العيش بدونها بسهولة،
ولا تولي اهتماماً لكلام أناس حقودين يتحدّثون عن أن الدولة أنفقت سنة 2002/2003 ما يقرب من مليار جنيه (894 مليون و667 ألف) على وسائل نقل كبار المسؤولين. هذه الأرقام قديمة، ومن المعروف أن المسؤولين الكبار اعتنقوا الآن مبدأ «احسبها صح، تعشها صح»، وأصبح كل أربعة منهم يستقلّون سيارة واحدة (أي أن كل أربعة نواب في مجلس الشعب يركبون سيارة واحدة، كل أربع «وزراء أصحاب» يركبون مع بعض...).
وإذا شعرت بأنّ هذه الإعلانات لا تخصّك في شيء، لأنك لست من المدخّنين، ولأن حلم امتلاك سيارة لا يزال بعيد المنال بالنسبة إليك، فأنت لا محالة سوف تتعرّف على عادل، هذا الشباب الذي «عايش وحده (هذا حلم آخر مستحيل المنال بالنسبة إليك، لكن ما علينا!)، لكن عمره ما قضاها ديليفري». و«قرّر إنه مش عيب حتى إنه يطبخ لنفسه»، فـ«عمل عجة تجنّن»، لأنّ «مبدأه في الدنيا إنه يحسبها صح». وهنا نرى عادل يركّب اللمبة «الموفرة» للكهرباء ويحكِم إغلاق الحنفية لمنع تسرّب الماء (أي إنه لا يترك شيئاً لا يوفر منه مليمات). المهم أنّ عادل في النهاية، «قرش على قرش، تحقق له حلمه»، وهنا نرى هذا الشاب الصالح يوم زفافه وسط فرح وزغاريد الأهل. أي إنك لا بد من أن توقف الشكوى المستمرة من عدم قدرتك على تدبير «مصاريف الجواز» فيما أنت «خاطب» منذ عدد لا بأس به من السنوات (دون دخول في التفاصيل)، فأنت لو حسبتها صح ـــ على غرار عادل ـــ و«وفّرت قرشين»، فسوف تساهم في حل مشكلة تأخّر الزواج في البلد، لأنها ليست مرتبطة بغلاء أسعار الشقق، ولا بتدنّي المرتبات، ولا بالبطالة؛ كل هذه الظواهر الثنائية يمكن تجاوزها بسهولة إن كنت من أصحاب إرادة قوية تُصبرك على التوفير. أمّا عن المصدر الذي سوف توفّر منه مصاريف الجواز ـــ إذا كنت عاطلاً مثلاً ـــ فهو غير مذكور في الإعلانات.
أمّا من لا يستهلك كهرباء تُذكر ليوفّر منها أقساط «الكمبيوتر للعيال»، مثل «الست سعاد» الفلاحة، فمن الواضح أنّ مصممي الإعلانات احتاروا في إيجاد مصدر توفّر منه شيئاً، فلم يجدوا أفضل من نصحها بالتوفير في الأكل (ما معنى توفير الأكل؟ تناول «رغيفين عيش» بدلاً من ثلاثة في اليوم؟!): «الست سعاد وفّرت في الأكل اللي عندها وبلبس العيد فرحت عيالها».
أن تنصح المواطنين بـ«توفير» أكل، أو كهرباء، أو ماء، في بلد تشهد مشاهد البذخ الشديد، سواء من مسؤوليها الكبار، أو من رجال أعمالها الأغنياء، من إقامة ولائم الإفطار الرمضاني، إلى إضاءات الإعلانات في الليل، مروراً بملاعب الغولف الضخمة التي أقيمت في ضواحي القاهرة الجديدة بمساحات هائلة واستهلاك للمياه حذّر الخبراء من أنّه قد يتسبّب في أزمات بالنسبة إلى احتياجات المواطنين، كل هذا قد يبدو سوريالياً تماماً.
أمّا أن تجعل المواطنين أنفسهم مسؤولين عما يصيبهم من إفقار، فهذا ما استفزّ شباب المدونين، الذين جعلوا من حملة «احسبها صح تعشها صح» هدفاً لتعليقاتهم الساخرة على الإنترنت: «يعني من الآخر طلعنا إحنا اللي غلطانين ومش عارفين نودي فلوسنا فين».
وإذا كان من الصعب تحديد أي أهداف واضحة لهذه الحملة، فالشباب كمّلوا الشعار بآخر من تأليفهم: «عشان أنت السبب في اللي البلد فيه»!
ومن الأفضل أن توقف الحكومة تبذير أموال الشعب على حملة تذنيب ضمير الشعب. سنة 2002/2003 أنفقت الدولة أكثر من 200 مليون جنيه على حملاتها الإعلانية. وإذا كان لا بدّ من هذا الشعار «احسبها صح، تعشها صح»، فمن الأحسن عقد قمة رباعية عاجلة، تجمع رئيس الوزراء بوزير المالية ووزيري الدفاع والداخلية، باعتبار وزارتيهما من أكثر الوزارات إنفاقاً، ليعكفوا، في غرفة بدون تكييف، على توفير الكهرباء، بأفضل طريقة لتوفير بعض المليارات من ميزانية الدفاع والداخلية التي مثّلت حوالى 22% من إجمالي مصروفات الموازنة سنة 2005ـــ2006، حسب حسابات د. عبد الخالق فاروق.
إن عجزوا عن ذلك، لا لشيء سوى لأنهم يرون شعار «احسبها صح، تعشها صح» صالحاً فقط للمواطنين أمثالنا، فليرسلوا الميزانية إلينا، نحن المواطنين المستهدفين بهذه الحملة، وسنتكلّف بعقد الجلسات اللازمة ما بين الخبراء الجادين والمواطنين المعنيين للوصول إلى وصفة تجعل مصر «تعيشها صح».
* صحافية مصرية