أسلوب جديد في التمويل؟ في المبدأ، نعم هذا ما يمكن قوله عن الندوات التي ندعى للمشاركة فيها مقابل بدل مادي قد يتخطّى الحد الأدنى للأجور في بعض الأحوال! لكن، هل تستحق المشاركة في مؤتمرات كهذه دفع بدل مادي، حين يكون المعيار هو القدرة على دفع البدل المادي؟ وماذا عن الناشطين الفقراء في موضوع الندوة؟ ثم ألم تكن «الموضة» الدفع للمشاركين لا تدفيعهم؟ هنا محاولة للفهم
راجانا حمية
تصل الدعوة عبر البريد الإلكتروني. هي دعوة خاصّة لحضور أحد المؤتمرات المتخصّصة بمناقشة حريّة المرأة ومستقبلها. تقرأ ليلى زين الدين الدعوة الإلكترونيّة بتمعّن شديد. تبحث في برنامج النقاش الطويل لعلّها تختار ما يناسبها من المحاضرات: كلمة لفلان ومداخلة لآخر، كلّ شيء كان يبدو على ما يُرام. الشابّة غارقة في الدعوة، تحرّك فأرة الحاسوب تارة نحو الأعلى وطوراً نحو الأسفل، وتدوّن ملاحظاتها. لكن، سرعان ما تشهق لحظة تلتقط عيناها الملاحظة المدوّنة في آخر البرنامج. تحملق في الشاشة، نعم إنها فعلاً ما تقرأه عيناها: الملاحظة تشترط دفع 400 دولار أميركي لقاء المشاركة في المؤتمر.
وهل حضور المؤتمرات مكلف إلى هذه الدرجة؟ أليس حضور هذا النوع من الاجتماعات مجانياً؟ أليس هذا هو بالضبط الهدف من تمويل الجمعيات الخارجي؟ لا بل إن السؤال أبعد: ألا يجب أن يدفع للمشاركين لقاء مشاركتهم؟ ولكن، لنر ما الذي «تشتريه» الأربعمئة دولار من معارف يسوقها هذا المؤتمر: تتضمّن «المشتريات»، إضافة لحضور المنتدى، المشاركة في النشاطات المرافقة، بما في ذلك ... القرطاسيّة، المحاضرات والاستقبال في المطار للمشاركين من الخارج وبالطبع الأكل.
لكن، وإن كان الأمر مستغرباً بالنسبة لليلى، إلا أن «موضة» تدفيع الناس لحضور مؤتمر ليست وليدة اليوم. حيث تشير مديرة المؤتمرات في «مجموعة الاقتصاد والأعمال» نهلا الزعتري إلى «أنّ هذه القيمة تتراوح بين 400 دولار و1500 دولار أميركي في لبنان، وذلك تبعاً لنوع المؤتمر وفترته ومكانه». وتضيف الزعتري «أنّ الأربعمئة دولار هي نوع من الالتزام من المشاركين بحضور المؤتمر(!!) كما أنّها تتيح لهم بناء شبكة علاقات. هذا هو إذاً مربط الفرس. يدرك القيمون على مثل هذه المؤتمرات أن معظم المشاركين يهدفون إلى «التعارف»، أي إقامة علاقات عامة يبدو أنها الهدف «المعرفي» الأهم من مؤتمرات كهذه. تضيف الزعتري «ثمّ إنّها ليست بالقيمة المرتفعة»! بالطبع، لن تكون القيمة مرتفعة، إن كان المشاركون من طالبي القرب من الأضواء، ولكن بغضّ النظر عن هؤلاء، هل تستحقّ إحدى الندوات أن ندفع 400 دولار أميركي لقاء المشاركة فيها؟ وخصوصاً إذا ما كانت هذه القيمة في حدّ ذاتها، تفوق الحد الأدنى الجديد للأجور؟
ما افترضناه صعباً في بادئ الأمر، قد يتغيّر من خلال الاطّلاع على وجهات نظر المشاركين في أحد المؤتمرات التي عقدت منذ فترة في فندق «فينيسيا» تحت عنوان مستقبل المرأة.
صاحبة الجواب الأوّل سيدّة أعمال ليبيّة «رائدة»، حسب وصفها لنفسها. كادت هذه السيّدة أن تختنق عند سماعها هذا «السؤال التافه» كما وصفته، عن سبب دفعها تلك القيمة الماليّة لقاء مشاركتها. أما الجواب المهم عن هذا السؤال التافه، فقد كان ما يأتي «إنّني سيّدة أعمال ناجحة، وعندي my company (تقصد شركتها) الرائدة في مجال الأعمال، فما هي الأربعمئة دولار؟». أمّا السبب الثاني، فهو أنّ «مؤتمراً عن النساء من المفترض أن يضمّ النخبة، لا الجميع».
الرائدة الليبية ليست وحيدة. فثمّة «رائدات» كثيرات كنّ حاضرات في تلك القاعة الفخمة، وعلى استعداد تام للدفع. وهنّ إن رفضن البوح بأسمائهنّ، فلأنّ «البرستيج» لا يسمح بالتحدّث عن «كام مئة دولار، لقاء موضوع هام كهذا»، كما تقول سيّدة أعمال لبنانيّة لنا. دفعت هذه السيّدة 400 دولار، وهي في غضون الأيّام المقبلة، ستدفع مجدّداً «100 دولار»، من أجل المشاركة في مؤتمر مشابه في العاصمة السوريّة. تضيف السيّدة سبباً آخر لتبرير مدفوعاتها، فإضافة إلى أنّ المنتدى يبحث في مستقبل المرأة، إلا أنّه أيضاً «المكان الأنسب لبناء شبكة علاقات قد تساعدنا في تطوير أعمالنا، ولنكون شوية interactive (تفاعليين) وخصوصاً أنّها أفضل من بناء العلاقات عن طريق الإنترنت». لكن، مقابل هذه الفئة، ثمّة نساء أخريات، «تسلّلن» إلى المؤتمر من دون دفع، إمّا مدعوّات مع إحدى السيّدات «الرائدات» في مجال الأعمال، أو بناءً على دعوة خاصّة من راعي المنتدى. هؤلاء النساء يدحضن جملة وتفصيلاً دفع الأموال مقابل ندوة، وخصوصاً أنّ القيمة تمنع نساءً كثيرات من الناشطات من الحضور بسبب العامل المادي. وتقول إحدى الحاضرات ببطاقة استثنائيّة «كنت بفكّر ألف مرّة قبل ما أخطو هذه الخطوة، وشو فيها لو عملوها بالأونيسكو؟ ما كان حدا دفع». ثمّ تستدرك «بس إنّو مش كل يوم عم نحضر مؤتمرات كهذه، وخصوصاً أنّه عن مستقبل المرأة والحرية»! من المقاومات للدفع رولا المصري منسقة حملة «جنسيتي» التي تقول «لست مع دفع بدل لقاء مشاركة. كما أنه ليست هناك مشاركة مخفضة للجمعيات»، وتستدرك «عندما يكون المؤتمر دولياً، يستحق الأمر لأننا نصل إلى فئة أكبر فنوصل لها قضايانا، أما على الصعيد المحلي فلا نحبذ المشاركة لقاء بدل».
هكذا، وتحت عنوان «بحث تحرّر المرأة»، يمكن أن نصل إلى أنّه لقاء يومين جمع المنظّمون 232 ألف دولار «ليست كلها لتغطية نفقات المؤتمر» حسب إحدى المنظمات بشرى طنّوس، التي قالت إنّه قبل يوم واحد من المؤتمر «وصل عدد المشاركات إلى 580، وجميعهنّ دفعن». عند هذه النقطة، تشير الزعتري إلى «أنّنا في النهاية مؤسسة خاصّة، تستند في موازنتها ودفع رواتب موظّفيها بجانب منها إلى تنظيم المؤتمرات». وهنا يستحق السؤال: كم هي الاستفادة المعرفية من نوع كهذا من المؤتمرات تدّعي طرح القضايا الكبرى، إن كان معيار الحضور هو 400 دولار؟