ثلاث نساء من المحافظات الثلاث التي تشتهر بزراعة التبغ، اختارتهن إدارة حصر التبغ والتنباك «الريجي» المزارعات الأول في لبنان من حيث جودة محصولهن ووفرته. من هن هؤلاء النساء؟ هنا محاولة لتقديمهن إيفاءً لجهودهن
اليمونة ــ رامح حميـة
على مدى عام كامل ومع صبيحة كل يوم بقاعي، تصارع فطوم شريف الوقت «بالعمل المضني والجهد الجبار» حتى «لا أمدّ يدي لأحد». فمن بعلبك حيث تقطن وعائلتها، إلى اليمونة حيث تنتظرها أرضها وشتلات تبغها، لتأفل من بعدها عائدة إلى مهنتها الثانية «بيع الألبسة والمفروشات المستعملة»، ومن ثم لزيارة زوجها المسجون «ظلماً» منذ ثلاث سنوات في سجن بعلبك.
هي مثال للمرأة التي تكافح على مدار الساعة من أجل لقمة عيشها وأبنائها الخمسة، وقد تجلى نجاحها بتفوقها على سائر مزارعي التبغ في البقاع، بعدما نالت جائزة المرتبة الأولى من الريجي لوفرة محصولها من صنف «ستي سعدى» وجودته العالية. وعلى الرغم من الأعباء المتراكمة على كاهلها، فإن ضحكتها تملأ بيتها المتواضع الذي يقبع بمحاذاة محطة الكهرباء في بعلبك، والذي تضرر تضرّراً كبيراً في حرب تموز، وما زالت آثار ذلك ظاهرة فيه، لكون التعويضات لم تعرف درب منزلها «لأني مش مدعومة» من جهة، «ولأنو ما في قدرة حالياً على إصلاحه» من جهة ثانية. هذا فضلاً عن خط التوتر العالي الذي يمر فوق منزلها على ارتفاع لا يتعدى الثلاثة أمتار. وأمام هذا كله لا تجد على وجه «أم سيف» إلا ابتسامة عريضة تقول لك بعدها: «عذابي لأولادي وزوجي، بركض ليل نهار من بالات الدخان للبالات المستعملة حتى وفر لهم متطلباتهم، وما خليهم يحتاجو لحدا».
لدى شريف رخصة تبغ واحدة منذ 8 سنوات، «تضمن» لها عشرين دونماً من الأرض الخصبة في اليمونة، فتزرع فيها بذاراً تمدها به الريجي، لتعمد هي وبناتها وبعض «شغيلة الفعالة السوريين» إلى زرع الشتول والعناية بها حتى تكبر. ثم يبدأ قطافها «وشكّها» في الخيطان تمهيداً للتوضيب الخالي من الغش (الطحش هو التبغ السيّء) في البالات استعداداً لتسليمها للريجي «فالعمل بأمانة وصدق هو الذي أوصلني لربح الجائزة».
وخلال كل هذه العملية تتنقّل فطوم بين بعلبك واليمونة يومياً لمتابعة العمل عن كثب «وخاصةً أنه الرزق الذي ننتظره كل العام». وعلى الرغم من أن زراعة التبغ وتوضيبه مرهقان ويتطلبان الجهد الكبير «فإن الحياة أصعب وأقسى. فزوجي ما زالت أمامه سنتان لانتهاء محكوميته، وبناتي لهن متطلباتهن المدرسية والحياتية»، مؤكدة أنها لا تتوانى عن تأمين كل ذلك.
ولأن المتطلبات كثيرة كان لا بد من مهنة أخرى هي البيع بالأمانة. وهي تتمثل باستدانة ألبسة وبيّاضات ومفروشات مستعملة، والتجوال فيها على منازل بعض الزبائن في القرى والبلدات المجاورة لليمونة وبعلبك، إضافةً إلى أولئك الذين يقصدون منزلها في بعلبك لشراء ما يلزم.
وتلفت فطوم إلى أن وحيدها سيف أنهى المرحلة الثانوية بتفوّق ومعدّل يؤهله ليكون ضابطاً بالحربية، الشيء الوحيد الذي «يريحني ويرفع عني العذاب».
فطوم شريف شكرت الريجي على الجائزة النقدية التي «أتت في وقتها» لتعبئة المازوت الخاص بالتدفئة، ولإيفاء بعض الديون المستحقة الدفع. والجائزة تضمّنت أيضاً مولداً للكهرباء ومضخة مياه لري التبغ. إلا أنها توجهت إلى المدير العام للريجي ناصيف سقلاوي بالقول: «لا بد من مساواتنا مع مزارعي الجنوب لناحية الأسعار وكمية الرخصة»، كما طالبت بدفع تعويضات عن الخسائر التي «أتلفت محاصيلنا من التبغ خلال حرب تموز، حيث ترتبت علينا أعباء زادت الضائقة الاقتصادية».
ولعل أبرز ما يلفت في عمل فطوم شريف ومعاناتها اليومية أنها على مدى الأيام التي تتنقّل فيها بين اليمونة وبعلبك، وفي ظل الأعباء الضاغطة والمتراكمة عليها، ثمة حقول للحشيشة والأفيون منتشرة على امتداد الطريق وهي تدر الكثير من الأموال لأصحابها، لكنها أبت أن تطعم أبناءها من «الحرام»، مكتفية بالقول: «الحلال ما عم يثمر علينا فكيف بالحرام!؟».