سعد الله مزرعاني *سعى ويسعى فريق 8 آذار (المعارضة الممثلة في الحكومة اللبنانية بنسبة الثلث)، إلى توسيع طاولة الحوار، بإضافة عدد من الشخصيات السياسية الحليفة، إليها. الهدف من ذلك واضح: تكريس المتغيرات السياسية والأمنية التي انطلقت منذ 7 أيار الماضي (سيطرة قوى المعارضة على العاصمة خصوصاً رداً على قراري حكومة السنيورة السابقة اللذين اتسما بطابع هجومي واستفزازي). هذا بالإضافة إلى هدف آخر يتصل بالموضوع نفسه المطروح بنداً وحيداً على جدول أعمال الحوار (الذي أقره «اتفاق الدوحة» الذي انعقد في شهر أيار الماضي، في العاصمة القطرية وبدور استثنائي لقيادتها)، عنينا موضوع «الاستراتيجية الدفاعية». فحزب الله خصوصاً، يسعى إلى أن يحصل الحوار وسط تعزيز مواقع الفريق المؤيد لبقاء سلاح المقاومة ولدورها، كما هو قائم الآن، وكما كان في الماضي.
لا شك في أن موقف فريق 8 آذار ومعه حليفه العماد ميشال عون زعيم «التيار الوطني الحر»، مفهوم من الزاوية التي ذكرناها. لكن هذا المطلب لم يعد كافياً ليغطي الأساسي من حاجات معالجة الخلل في الوضع الداخلي اللبناني. ثم إنه إذا اكتُفي بحصر موضوع البحث في الجانب السياسي ـــ الأمني فحسب من «الاستراتيجية الدفاعية»، فإن ما تعاقب واستجد وتغير من الأحداث، قد أسقط، في الواقع، مخاوف فريق المعارضة (حزب الله خصوصاً)، كما أسقط مطالب فريق الأكثرية (الموالاة) في نزع سلاح حزب الله، ومعه قدرة هذا الحزب على أن يتعامل في الصراع مع العدو، وفق ما تمليه قناعاته وتجربته وحاجات المواجهة الناجحة معه.
وفي مجرى المحاولة المذكورة آنفاً، كان السيد حسن نصر الله قد اقترح في إحدى خطبه ما بعد إقرار «اتفاق الدوحة»، على أن يتوسع جدول أعمال الحوار ليشمل أيضاً البحث في إقرار استراتيجية اقتصادية، للتعامل مع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة المعروفة، ولعدم حصر الحوار في موضوع المقاومة.
طبعاً، رُفض هذا النوع من التوسيع أيضاً، ففريق 14 آذار يعتقد أن حصر جدول الأعمال بالاستراتيجية الدفاعية، والإبقاء على العدد الحالي من المشاركين، هو المناخ الأفضل لاحتمال أن يحقق بعض التقدم في هذا الصدد، أو في أضعف الإيمان، لمنع خصمه من أن يقلب الطاولة، ويحوّل شعار نزع سلاح المقاومة إلى النقيض: لجهة الاستمرارية والدور المستقبلي والعلاقات والتحالفات...
والواقع أن متغيرات مرحلة 7 أيار وما بعدها وقبلها، على صعيد لبنان والمنطقة والعالم، قد صبّت جميعاً في إسقاط مخاوف فريق 8 آذار، كما صبّت، بالمقدار نفسه، في إسقاط مطالب فريق 14 آذار، كما ذكرنا آنفاً.
ويجب أن نلفت إلى أن أبرز نتائج هذه المتغيرات، قد تمثل في إضعاف نفوذ الولايات المتحدة الأميركية في لبنان. وليس من المبالغة القول إن الوصاية أو شبه الوصاية الأميركية التي كانت مفروضة على لبنان منذ انسحاب القوات السورية في أواخر نيسان عام 2005، قد انهارت بشكل شبه كامل. ولقد كرّس «اتفاق الدوحة» هذا الأمر، ليس فقط في النتائج التي أفضى إليها، بل حتى أيضاً في مظاهر أخرى، من نوع مكان انعقاد المؤتمر، وعدم استضافة السعودية له، وحتى عدم رضاها عن مجرد انعقاده، فضلاً عن نتائجه.
وطبيعي أن نشير أيضاً إلى التغيير في التوازن الداخلي اللبناني، الذي انعكس لغير مصلحة الفريق الحليف للإدارة الأميركية ولقيادة المملكة العربية السعودية، في تأليف الحكومة اللبنانية، وفي بيانها الوزاري. بل يجب أيضاً إضافة المناخات التي جرى فيها انتخاب رئيس الجمهورية، ومن ثم المواقف التي أعلنها، وصولاً إلى اختيار قائد جديد للجيش، والمواقف التي أعلنها أيضاً هذا الأخير... ويجب ألا ننسى، كعامل مساعد، وفي ظروف تصبح أكثر ملاءمة للطروف السوري، أن القيادة السورية قد عقلنت مواقفها حيال لبنان (في الجزء موضوع اهتمامنا اليوم)، وذلك عبر الموافقة على إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، والحرص في الوقت نفسه على كسر جدار العزلة الذي فرضته عليها واشنطن والرياض، مع نجاح ملموس في هذا الصدد، تمثل خصوصاً في بعث الحرارة والدفء بدءاً في العلاقات الفرنسية ـــ السورية.
وفي امتداد ذلك، وكنتيجة لتراكم إخفاقات الإدارة الأميركية، لا بد من ملاحظة تحولات اتسمت بها مواقف أحد أقطاب فريق 14 آذار، عنينا بالتحديد التبدلات في موقف رئيس «اللقاء الديموقراطي» والحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. فجنبلاط يمضي في سياسة تمييز نفسه ومواقفه وعلاقاته، عن حلف 14 آذار. وهو قد اتخذ، وفق ما يتراكم ويتأكد كل يوم، موقعاً جديداً في الاصطفافات القائمة، هو أقرب إلى أن يصبح موقعاً وموقفاً وسطيين. ولا يخفى ما تركه ذلك، وما سيتركه من أثر سلبي على فريق 14 آذار في لوحة التوازنات اللبنانية.
واضح أن في هذه التبدلات والمتغيرات ما يكفي لبعث الاطمئنان في نفوس «حزب الله» وحلفائه. ويجب أن نضيف أن هذا الاطمئنان يجب أن يتعزز أكثر مع نجاح باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، ومع اندلاع أزمة القيادة في إسرائيل إلى درجة الحاجة إلى تغيير كبير ينطوي بالتأكيد على جانب عدواني، لكنه يحمل بذور أزمة متصاعدة في الكيان الصهيوني، قد تكون شبيهة بأزمة انهيار الأسواق المالية في مركز النظام الإمبريالي ـــ الرأسمالي في العالم.
كنا في مناسبة سابقة قد طالبنا فخامة رئيس الجمهورية بأن يتخذ قراراً تاريخياً بالذهاب في موضوع الحوار إلى عمق الخلل القائم في نظام علاقات اللبنانيين في ما بينهم، عنينا النظام الطائفي اللبناني. واليوم إذ نجدد هذاالمطلب التاريخي، فإنما نقترحه أيضاً على أطراف المعارضة المشاركين في طاولة الحوار. ومبرر هذا المطلب، ما كشفته الشهور الماضية من عمق الضرر الذي يمثّله الانقسام الطائفي والمذهبي على مجمل قضايانا المصيرية: قضية التحرير ومواجهة العدو، وقضية التدخل الأميركي في الشوؤن الداخلية اللبنانية (واستطراداً وقبلاً الإسرائيلي)، وقضية الأزمة الاقتصادية ـــ الاجتماعية التي تضيف إلى ضحاياها أعداداً جديدة هائلة من اللبنانيين، فضلاً عن الأجيال الجديدة، عامة، التي تعاني من البطالة والهجرة والعوز والتشرد...
هل نزجّ موضوع التغيير، بأفق وبهدف إصلاحيين، في مسألة لا تتحمل ذلك؟ وقد يقال أيضاً إننا نطالب قوى أخرى بأن تحمل برنامجنا وتتبنى مطالبنا نيابة عنا! ليس الأمر على هذا النحو. وقد أثبتت الأحداث أنه لا يمكن «تحييد المقاومة» عن الصراع والتوازنات الداخليين، كما لم يكن ممكناً في فترة سابقة حيث كانت القوى التغييرية هي قوة المقاومة الأساسية، تحويل المقاومة إلى عنصر توحيد متخط للانقسامات الداخلية. وبهذا المعنى فإن سياسة «التطمين» التي يرددها ويمارسها قادة حزب الله، لم تحل دون أن يجد خصوم المقاومة في كل نجاحاتها، سبباً لزيادة قلقهم على التوازن الداخلي، وسبباً إضافياً لطلب الدعم الخارجي، وبثمن خطير على المستويات كلها.
وتستطيع مراجعة جدية لمسار الأحداث في لبنان في السنوات الأخيرة، أن تشير إلى أن إصلاح الخلل في النظام السياسي اللبناني قد بات إحدى ضمانات المواجهة المفتوحة مع المشروعين الأميركي والصهيوني. ومن نافلة القول أيضاً، إن الإصلاح بات الممر الإجباري لبناء وحدة وطنية تعالج مخاطر الانقسام والتقسيم والتقاسم...
ولا بد من أن نختم بأن استقامة المعادلات المطلوبة، تتطلب أيضاً انخراطاً أكبر لقوى التغيير في معركة المواجهة مع المغتصب والمحتل والمتواطئ، وبدرجة تتيح بالفعل إحداث تعديل جوهري في الأدوار والموازين.
* كاتب وسياسي لبناني