سناء الخوريقرر جدي أن يرافقني من عكار إلى بيروت، سأستغل كل امتيازات الإكليروس هذا الصباح. سأحتلّ المقعد المريح في الباص، في الأمام إلى جانب السائق، وسيدفع جدّي الأجرة عن حفيدته بالطبع. جدّي كاهن كباقي الكهنة، ويعرف الكثير من الناس وبعض أسرار بيوتهم. اعتدت على وظيفته هذه، بغض النظر عن مشاعري الدفينة تجاه الإكليروس عموماً، فما دخل جدي في عُقَدي أنا؟
جدي كاهن كباقي الكهنة. المشكلة أنّ مستوى الفكاهة في دمه مرتفع قليلاً، أن الناس اعتادوا ذلك، أما أنا فنصيبي ما يبقى من إحراج.
عندما ركبنا الباص وانطلقنا، شعرت بأن مشواري لن يكون عادياً، وأن مزاج جدّي في ذلك الصباح كان جاهزاً للسخرية اللاذعة. كان شعوري في محلّه، فكلّ راكب حظي بحصّته من بركات «الأبونا».
بدأ يفجّر مواهبه على السائق وزوجته: كيف يتركها وحدها طوال النهار؟ هل يأمن جانبها؟ «لعن الله النساء، لا أحد يعرف ماذا يقلن لي على كرسيّ الاعتراف». ضحك السائق رغماً عنه، فبماذا يمكنه أن يجيب المحترم «المهضوم»؟
ابن أحد الركاب مهاجر في المكسيك، وجدّي صاحب «بزنس». راح يسأله كلّ خمس دقائق عن أحوال «المرضي»، ومتى سيزور لبنان والقرية والرعيّة (هذه الأخيرة الأهم بين الثلاثة). يجيبه الرجل في المرّة الأولى بالكلمات المعتادة التي تقتضيها اللباقة. في المرة العاشرة تعلو القهقهات في الباص، ويختتم جدّي عرضه بلهجة الراعي الصالح: «أريد أن أرتّب جدول مواعيدي المزدحم، ماذا لو أراد أن يحتفل بقدّاس على نيّة عائلته؟ يجب أن أحجز له منذ الآن». ويضيف همساً وهو يريد من الكلّ أن يسمعوا: «عندي عائلة يجب أن أطعمها». ثمّ بكلّ برودة أعصاب، يسأل الأب الذي أصبح وجهه بلون اللفت: «كم يدفع ابنك؟». وعندما يأتي الردّ صمتاً يقول جدّي: «ما بك يا بخيل؟ هل تعتقد أنّني أنتظر ابنك؟ لا بدّ أن يموت أحد العجائز هذا الأسبوع. سأتدبر أمري».
كنت أردد في قلبي: أرجوك يا جدّي اسكت قليلاً. على كلّ حال كدنا نصل. قبل أن ينزل جدّي من الباص، التفت إلى امرأة تجلس في الخلف، وقال لها: «ألن تزوّجي أحد أبنائك قريباً؟ ماذا تنتظرين؟ أسرعي، فالآن موسم حسم، وسأحسم لكِ 10 في المئة من كلفة أوراق الزواج».