ميشال تويني*لا ينطبق على عمليات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة سوى توصيف واحد: «حرب إبادة بكل ما للكلمة من معنى»، في واحدة من أبشع حروب الإبادة التي شهدتها الإنسانية.
لا شك أن هذه الحرب ستكون لها تداعيتها على الساحتين السياسيتين العربية والعالمية، وستقود إلى متغيرات، مهما تكن نتائجها السياسية والميدانية، يرى بعض أنها ستكون جذرية، فيما يرى آخرون أنها قد تكون محدودة سواء على المديين القريب أو البعيد. فصور هذه المجازر لن تؤدي إلا إلى المزيد من التطرف في القول والفعل عند من يرى أن دمه ولحمه وأطفاله ونساءه ما عادوا سوى مادة تلفزيونية، يتابعها العالم في مسلسل يعرض على حلقات، من دون أن يتحرك أحد جدياً لوقف هذه المجزرة بحقهم.
إلا أنه أيضاً سيكون لهذه الحرب تداعيات بالغة الأثر على المجتمع الدولي والشرعية الدولية، وستنعكس بصورة أو بأخرى على الأمم المتحدة. فتجويع المواطنين عبر منع المواد الأساسية، وحرمانهم المياه والكهرباء والغاز والمحروقات، ومنع الإمكانات الاستشفائية، وتجنيد الجرحى للتبليغ عن عناصر حماس للسماح لهم بالحصول على الاستشفاء (!!)، في مرحلة أولى، ثم قصف عشوائي بأسلحة محرمة وممنوعة دولياً واستخدام المدنيين حقولَ تجارب لأنواع جديدة من الأسلحة غير المجربة سابقاً، في مرحلة ثانية، واستهداف المواطنين العزل، ومنع إمكان الهرب عنهم حتى من حلقة الموت، حتى باتت أكثرية شهداء العدوان من الأطفال والنساء والمدنيين العزل، هو الشرح الوحيد لعملية إبادة.
وفي واحدة من أبشع مجازر الحرب الإسرائيلية هذه، استهداف مدرسة للأمم المتحدة كانت تحولت إلى ملجأ للنازحين قرب مدينة غزة، قتل فيها 42 مدنياً (من ينسى قانا عامي 96 و2006). وعن هذه المجزرة، كتب كريس ماكغريل في صحيفة الغارديان الإنكليزية بتاريخ 11 كانون الثاني الجاري، تحت عنوان «لماذا الحرب الإسرائيلية يقودها الخوف»: «إن إسرائيل «تصارع» لتبرير فعلها بـ«إبادة» عائلات بأكملها، بما فيها الأطفال عبر ادّعاء أنها تطارد قيادة حماس»، وهو ما ينتقده الكاتب ويهزأ منه، فيروي أنه خلال زيارته إسرائيل (فلسطين المحتلة) خلال العدوان على غزة، مرّ في تل أبيب بـ«أزرييلي مول»، وهو واحد من أكبر المجمعات التجارية في إسرائيل. ويروي ماكغريل أنه يوجد بمحاذاة المول، مقر رئيسي للجيش الإسرائيلي، وهو مقر «كيريا» العسكري، حيث يسكن وزير الدفاع الإسرائيلي، وكبار ضباط الجيش، وأن المبنيين موصولان عبر جسر. وهذا يعني، بحسب الكاتب، أن ما يدعيه الجيش الإسرائيلي عن وجود المقاومة بين المدنيين، أمر غير واضح وغير محسوم، وهي تقوم به أيضاً علناً وجلياً.
ومع أن الوقت لا يسمح لترف النقاش والجدال النظري، بل يجب أن ينصبّ أي جهد للمساهمة في وقف حمام الدم، فهل بإمكان الباحث عن الدوافع الإسرائيلية لحرب الإبادة هذه التي لا تبرر، أن يقول إنها انتقام مما يدعي اليهود معاناته في أوروبا؟ أم أن إسرائيل ترتكب ما ترتكبه، وهي متأكدة أنه لن يؤثر على علاقاتها الظاهرة والمستترة مع بعض الأنظمة العربية التي قررت فتح علاقات معها؟ أم لأنها موقنة أن لا حساب ينتظرها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بعد الحديث عن ضوء أخضر أخذته من الإدارة الإميركية المودعة للقيام بهذه العملية.
إن محاسبة إسرائيل ومقاضاتها على جرائمها في غزة التي تعاقب عليها كل الشرائع والمواثيق الدولية، ولا يمكن أي ضمير أن يسكت عنها، هي واجب وضرورة. فهي تستهدف دور العبادة بتعمد، وهو ما تنص اتفاقية اليونسكو بصراحة على عدم جوازه، فدمرت أكثر من عشرة مساجد حتى الآن، وهي تستهدف كذلك فرق الإسعاف والنجدة كما لا توفر المستشفيات والمراكز الطبية من ضرباتها، وتستهدف المدارس والجامعات، وهو أمر واضح تمنعه قوانين الحرب الدولية، فيما صور الأطفال القتلى والممزقة أجسادهم الطرية التي تقشعر لها الأبدان لم تعد خافية على أحد، وإن حاول البعض أن يدوروا بطرفهم عنها. بل إن مؤسسات الأمم المتحدة بحدّ عينها ليست بمنأى عن آلة الحرب الإسرائيلية بعد استهداف مراكز وفرق عمل الأونروا في غزة.
قد لا نصل إلى نتائج سريعة وحاسمة في مقاضاة إسرائيل، ولكن من غير الجائز السكوت أو التنازل عن حقنا، وليس فقط من أجل إنقاذ أهلنا وشعبنا في غزة، لكن أيضاً من أجل إنقاذ العدالة والشرعية الدوليتين. فهل من الممكن بعد اليوم أن تقوم محكمة العدل الدولية أو مجلس الأمن أو أي من هيئات الشرعية الدولية بمحاكمة أو حتى بطلب محاكمة أو مقاضاة أي زعيم أو جهة سياسية في العالم بتهمة ارتكاب جرائم حرب، أو أية جرائم أخرى، فيما ينجو قادة إسرائيل كلهم من كل تلاوينها وأحزابها، من يسارها إلى يمينها حتى من المساءلة!

* محامٍ لبناني