سوق الجمّال» في منطقة الشيّاح ــــ ضاحية بيروت الجنوبية، واحد من أشهر الأسواق الشعبية في لبنان. حين تزوره تدخل عالماً مكتظاً بالناس من كل المناطق... وتتعرف إلى إيقاع الحياة التي لا تهدأ في ممراته ومحاله، قد تتحوّل إلى زبون دائم، فيحفظ التجار اسمك والبضائع التي تبحث عنها
حلا ماضي
ربما هي رائحة الصعتر والشومر البلدي التي تتسرب إلى المنازل القريبة من سوق الجمال الشعبي فى الشياح، ما يشدني اتجاه ذلك المكان. حتى إن كان طريقي في اتجاه مخالف، سرعان ما أجد نفسي داخل أزقة السوق، ذات الشكل المستطيل من جهة والمربع من جهة أخرى، كمن يفتش عن حل لأُحجية ما وراء تلك البضائع المتكدسة على رفوف المحال ووراء أبوابها الصغيرة. هذا الإحساس لا يراودني وحدي، فما أن تطأ قدماي مدخل السوق حتى أجد نفسي على مشارف «قرية شعبية» تنتشر على مساحة لا تتجاوز الألف متر مربع، تحتضن تحت السقوف الحديدية الصدئة، مئات من السيدات والأطفال ومئات العيون الهرمة، كلهم تغلغلوا إلى السوق حيث تضج الأمكنة الصغيرة بالحياة باكراً ولا تهدأ إلا مع استسلام الشمس ومغيبها.
حشود شعبية تتدفق منذ ساعات الصباح الأولى، يأتون إلى السوق الذي يُعرف بـ«القلب النابض» للضاحية الجنوبية، مكوّناً صلة الوصل بينها وبين مختلف المناطق اللبنانية.
الزوار هنا ليسوا مجرد أرقام تدخل إلى السوق وتخرج منه، بل أصبح معظمهم معروفاً لدى البائعين باسمه أو لقبه.
أنسى أحياناً الهدف من زيارة السوق، أسهو خلال تجوالي داخل زواريب هذا السوق الذى شُيد قبل خمسين عاماً، لربما يكمن السبب في حشريتي بمراقبة ملامح الزوار المتنوعين، القادمين من كل الاتجاهات الجغرافية، الذين لا يلبثون يشكلوا مجتمعين قوس قزح لا تبهت ألوانه.
لا يمكن وصف سوق الجمال، إلا بأنه مجموعة أسواق صغيرة «تكوم» بعضها على بعض وتماهت في ما بينها لتشكل ذلك المكان الذي استولد نفسه من حديقة. كانت الحديقة ملكاً لعائلة من آل زهر الدين من الجنوب. بدأ أفراد العائلة بعرض بضائعهم التجارية من سجاد وحقائب بين شجيرات الصبير والرمان حين كانت تلك الأشجار تظلل الشياح، إثر اندلاع الحرب الأهلية فى بيروت، وسرعان ما تبعهم في ذلك بعض التجار الذين كانت محالهم على «خطوط التماس» التي قسمت بيروت.
غابت الورود والشجيرات من الحديقة، حلّت البسطات التجارية مكانها، لتصبح أزقة تنبت في كل زاوية.
من يزر «سوق الجمال»، فلا بد له من ملاحظة «تمرد» بعض الشجيرات الخجولة على أطراف السوق، كأنها أبت أن تُدفن تحت الأرض، فأصرت على البزوغ من «مفاصل» الأزقة فى السوق.
بقدر ما يتنوع الزائرون في السوق، بقدر ما تكثر المحال التجارية، فهنا مكان مخصص لبيع الأجهزة الكهربائية والأدوات المنزلية، تليه بسطة تعرض أنواعاً هي تقليد لساعات من أشهر الماركات العالمية، و«لكنه تقليد ونسخ من الدرجة الأولى» كما يقول الزبائن.
تتنوع المحال وصولاً إلى مكان يكتظ بالجنس اللطيف، إنه محل التاجر حسن شمص لبيع الأكسسوار وكريمات التجميل النسائية، ويكاد هذا المكان أن يكون الأكثر شهرة فى السوق، تليه محال متنوعة لبيع الألبسة والأحذية المستوردة من مختلف دول شرق آسيا... هل قلتم آسيا، إن السوق يعبق بروائح توابلها المتنوعة، فيثير لعاب محبي الأكل والبهارات.
يمكن الدخول إلى السوق من خلال ثلاثة مداخل، لا يتجاوز عرض المدخل الواحد متراً، ولكل مدخل رائحته الخاصة، فتخيم عند الأول رائحة العطور المعبأة وهي نتاج مهنة «حديثة» أدخلت إلى السوق، ليتجاور أصحابها إلى جانب العاملين في مهن تقليدية حافظت «على وجودها» كمهنة تنجيد الفرش واللحف للعرائس، إذ إن نثرات القطن المتطايرة لا تزعج أبداً زوار السوق.
أما في المدخل الثاني فتجذبك رائحة الصعتر وأوراق الغار والفاكهة المجففة كالتين والجوز والمشمش.
... وإلى المدخل الثالث حيث يصطاد أبو إبراهيم (بائع السمك) زبائنه قائلاً لهم إن أسماكه اليوم طازجة «وآتية من شاطى صور مباشرة، وربما غداً البحر سيكون هائجاً فيخبئ أسماكه».
خارج «الأسوار الصغيرة» للسوق، تتوزع على الأرصفة «بسطات الخضار»، البائعات نساء بدويات، يعرفن كيف يقنعن الزبون ليشتري الهندباء أو الخبيزة، «فهي مفيدة للصحة، ولا تزيد الوزن» تقول البائعة حسناء لربات البيوت، مشيرة إلى أنها قطفتها من البقاع هذا الصباح «وغداً قد يكون الطقس عاصفاً فلا أستطيع المجيء إلى السوق»!
إيقاع الحياة في سوق الجمال لا يتغير، حتى مع هطول الأمطار، تصل البدويات في موعدهن الصباحي. «الحياة في هذا المكان لا تهدأ أبداً»، كما يقول مختار الشياح قاسم الخليل الذي لا يذكر أن سوق الجمال قد أقفل يوماً، فحتى أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 كان السوق يفتح أبوابه أمام ناسه، ليس بهدف التبضع فحسب، بل تحول السوق حينها إلى «مقاهٍ» صغيرة تستضيف أبناء المنطقة للثرثرة ومشاهدة آخر التطورات على شاشات التلفزيون. انتهت الحرب، ولكن «مقاهي» السوق لم تفقد «سحرها»، فهي ما زالت قائمة، بعضها يتسع لشخصين أو أكثر ، ويمثّل استراحة للزائرين.
أثبت سوق الجمال مع مرور السنوات «حضوره»، مكوّناً تجمعاً تجارياً أساسياً في الشياح، وهو يلعب دوراً مهماً في حياة أبناء مناطق أخرى، وذلك نظراً إلى تنوع البضائع والمحال التجارية فيه، إضافة إلى أسعاره المقبولة من جميع الفئات الشعبية، على عكس ما هي الحال في الأسواق الشعبية التي نشأت في المرحلة نفسها، أي إثر اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، كسوق الروشة مثلاً!


ذهب برازيلي