معتصم حمادة *ستبقى إسرائيل تدّعي أنه ما دام المفاوض الفلسطيني عاجزاً عن استعادة سيطرته على القطاع، فإنه سيكون عاجزاً، بالنتيجة، عن الالتزام بأية اتفاقات قد يُتوصّل إليها معه.
وهكذا تلعب إسرائيل لعبتها: ـــ شطب الدور السياسي للمقاومة. ـــ تغذية الانقسام الفلسطيني. ـــ المماطلة في الوصول إلى تسوية مع الفريق الفلسطيني المفاوض. ـــ استكمال مشاريع الاستيطان والتهويد وفرض الوقائع الميدانية، بحيث تُفرّغ العملية التفاوضية من أي مضمون ذي جدوى، وتتحول إلى مجرد لقاءات عبثية، تموت تدريجياً.
مثل هذا التقدير ــــ وهو محاولة جادة لقراءة العدوان الإسرائيلي سياسياً ــــ يضع الحالة الفلسطينية أمام التساؤلات التالية: هل من مصلحة الفريق الفلسطيني المفاوض أن تنكسر المقاومة في القطاع؟ (على خلفية الانقسام والخلافات الفلسطينية ــــ الفلسطينية)، وهل كسر المقاومة يفتح الباب أمام إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الداخلية؟
نطرح مثل هذه التساؤلات، منطلقين من أن البعض، في صفوف الفلسطينيين أنفسهم، يروّجون أن المقاومة الفلسطينية تقف عقبة في طريق الوصول إلى حل مع إسرائيل، وأن وقف الأعمال القتالية ضد العدو الإسرائيلي، وإزاحة المقاومة، أمران من شأنهما أن يعجّلا في الوصول إلى حل مع إسرائيل.
والرئيس محمود عباس واحد من الذين يدعون إلى التخلي عن المقاومة، واعتماد المفاوضات خياراً وحيداً للحل مع الجانب الإسرائيلي، بل إنّه كثيراً ما يحمّل المقاومة مسؤولية «ردود فعل» إسرائيل على العمليات القتالية، بما في ذلك إطلاق الصواريخ من القطاع المحاصر على أهداف خلف «الخط الأخضر».
غير أن الفريق الفلسطيني المفاوض نسي، أو تناسى، أن المقاومة هي العامل الرئيسي الذي أرغم إسرائيل على الاعتراف بالجانب الفلسطيني، ممثلاً بمنظمة التحرير الفلسطينية، وأن المقاومة وفعلها المؤثر هما العامل الأبرز الذي «أقنع» إسرائيل بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، وبالتالي، كلما قويت الحالة الفلسطينية، واستطاعت أن تضغط على العدو الإسرائيلي، وأن تكبده خسائر فادحة ثمناً لاحتلاله وعدوانه، كلما نجحت في تعزيز عوامل الضغط للوصول إلى حل سياسي. وكلما ضعفت الحالة الفلسطينية، وفقدت قدرتها على التأثير في الحالة الإسرائيلية، وفي إلحاق الخسائر في صفوف المحتلين والمستوطنين، كلما ازداد الموقف الإسرائيلي تعنتاً، وتشدداً.
وكلّنا يذكر كيف أن الولايات المتحدة بادرت إلى إطلاق مشروع ريغان للحل في المنطقة، مستفيدة من نتائج الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، ومغادرة قيادة المقاومة لبيروت. وبنظرة إلى مشروع ريغان، نؤكد أنه كان أدنى بكثير حتى في الشق الفلسطيني في اتفاقيات «كامب ديفيد» بين القاهرة وتل أبيب.
لقد قرأ ريغان في خروج قيادة المقاومة من بيروت، هزيمة للمقاومة الفلسطينية، فانطلق لقطف ثمار هذه الهزيمة في مشروع للحل يستجيب للمصالح الإسرائيلية ويتجاهل المصالح الوطنية الفلسطينية.
في المقابل، كلنا يذكر كيف اضطرت إسرائيل للنزول عن الشجرة تحت ضغط الانتفاضة الأولى، إذ صرّح إسحق رابين آنذاك، وهو الجنرال المتباهي بقوة جيشه وقدرته على تكسير عظام شبان الانتفاضة، أنه لا حل عسكرياً للانتفاضة، وأن الحل يجب أن يكون سياسياً، في اعتراف غير مباشر، لكن صريح، بضرورة التفاوض مع الفلسطينيين.
وإذا ما اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية، فلأن المنظمة هي التي كانت تقود، عبر فصائلها، واتحاداتها الشعبية، ومؤسساتها المختلفة، الانتفاضة، وتضغط على العدو وتكبده خسائر مادية وبشرية ومعنوية، ولأن فصائل المنظمة اعتمدت، من ضمن خياراتها المتعددة، الكفاح المسلح وسيلة رئيسية لتحقيق الأهداف.
هذه الخلاصة تقودنا إلى التأكيد أن المفاوض الفلسطيني سيكون هو الخاسر الأكبر إذا ما نجحت إسرائيل في تقييد المقاومة وتكبيل يديها بقرارات تصدر عن مجلس الأمن، وتضع، في المقابل، المقاومة في مواجهة المؤسسة الدولية. سيكون المفاوض الفلسطيني هو الخاسر الأكبر لأنه سيخسر ورقة القوة الفاعلة والمؤثرة في الصراع مع العدو الإسرائيلي، وبالتالي سوف يتعمق اختلال ميزان القوى التفاوضي مع هذا العدو، الأمر الذي سيدفع به نحو المزيد من التعنت، لفرض إرادته على الفلسطينيين.
ونحن نحذر، ويهمنا أن نوضح أننا ندرك جيداً أن العدو الإسرائيلي، بآلته الحربية المعروفة، لن يستطيع الانتصار على المقاومة في القطاع، حتى وإن استطاع أن يلحق خسائر فادحة في صفوف المدنيين. فكسر المقاومة وشل قدرتها على العمل، أمر مستحيل ما دامت المقاومة عملاً شعبياً منظماً تقوده وتمارسه فصائل مسلحة ذات امتدادات داخل غزة وخارجها.
ونعتقد أن العدو نفسه يدرك هذه الحقيقة، وهو يعبر عن إدراكه هذا، في تحركاته العسكرية الحذرة في داخل القطاع، ولجوئه المفرط إلى استعمال سلاح الطيران والقصف المدفعي، براً وبحراً، متجنّباً التصادم المباشر والواسع مع المقاتلين الفلسطينيين.
ونحن نحذّر، ويهمنا أن نوضح أيضاً، أن المقصود بالعملية التفاوضية ليس هذه العملية العبثية التي انبثقت عن مؤتمر أنابوليس، والمختلة كلياً للجانب الإسرائيلي، والمتفلتة من كل الضوابط، وخاصة ضوابط الشرعية الدولية التي تنص على عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، وضرورة الانسحاب حتى حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967، بما في ذلك القدس الشرقية المحتلة، وحق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة كاملة السيادة، خالية من كل أشكال الاحتلال والاستيطان، وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم.
ولعل وثيقة الوفاق الوطني التي أقرتها الحالة الفلسطينية عام 2006، نجحت بشكل لافت في النظر في تعريف العملية التفاوضية المنشودة.
على هذا الأساس، ننظر إلى المستقبل، ونبني مواقفنا منطلقين من ضرورة التحرك بكل السبل لوقف العدوان الإسرائيلي على أهل القطاع وسكانه، وانسحاب قوات العدو إلى ما وراء «الخط الأخضر» من دون قيد أو شرط.
وحين نقول من دون قيد أو شرط، فإننا نعني بوضوح رفض كل المشاريع والاقتراحات والحلول الهادفة إلى مكافأة الاحتلال على عدوانه. لذا، من الخطأ الدخول الآن في رسم سيناريوهات لما سيكون عليه القطاع بعد وقف العدوان، ومن الخطأ الانجرار الآن إلى الفخ الإسرائيلي الداعي إلى توفير «ضمانات» لتل أبيب تكفل وقف إطلاق الصواريخ على التجمعات السكانية الإسرائيلية، ومن الخطأ الانجرار إلى الفخ الذي يحمّل المقاومة في القطاع مسؤولية انفجار الوضع بالشكل الذي جرى فيه.
كان يمكن أن تتوقف الصواريخ الفلسطينية عن استهداف المناطق الإسرائيلية لو أن حكومة أولمرت وافقت على تمديد التهدئة، مستجيبة إلى المتطلبات التي وضعها الفلسطينيون بعد المشاورات التي أجروها في ما بينهم. لكن حكومة أولمرت لجأت إلى التعنت، وتقصدت رفض هذه المتطلبات، وأصرت على التصعيد وصولاً إلى شن حملة «الرصاص المصهور» العدوانية، لأهداف تتجاوز الصواريخ لمصلحة إعادة صياغة العلاقات الفلسطينية ــــ الإسرائيلية على أسس جديدة، تخرج من سياقها المقاومة كأحد عوامل التوازن الرئيسية.
إذا كان من حديث عن ضمانات، فالفلسطينيون هم من يحتاج إلى هذه الضمانات، والفلسطينيون هم من يحتاج إلى من يكفل لهم رد العدوان عنهم، وفك الحصار، ووضع حد لسياسة التجويع والقتل البطيء التي تمارسها سلطات الاحتلال بحقهم.
عندما يتوقف العدوان، ولا بد أن يتوقف، وعندما تخرج المقاومة صامدة، لا بد للحالة الفلسطينية من أن تبحث لنفسها عن استراتيجية كفاحية، تتزاوج فيها المقاومة مع العملية السياسية، بحيث تتفق أهداف المقاومة مع أهداف العملية السياسية وتخدمها، وبحيث توفر العملية السياسية للمقاومة شروط صمودها.
وبالتالي حين تنتصر غزة، فإن الحالة الفلسطينية برمتها سوف تنتصر. وأية هزيمة ـــ فرضاً ـــ تلحق بغزة، هي هزيمة لكل الفلسطينيين.
* عضو اللجنة التنفيذية للجبهة الديموقراطية
لتحرير فلسطين