أوصاها والدها بـ«أن تدافع عن رأيها حتى الموت». المناضلة المصرية التي تمرّدت على الضغوط العائليّة وتزوّجت مَن تحبّ، اختارت العمل «وسط الناس»، وكرّست نفسها لقضيّة الفلاحين... وخسرت في المواجهة زوجها الشهيد صلاح حسين. شاركت في تأسيس «حزب التجمّع» اليساري، وما زالت تخوض معاركها القضائية مع «الإقطاع». جولة أخيرة اليوم أمام محكمة الاستئناف

دينا حشمت
ظلّت تستقبل المُعزّين أسابيع طويلة بعد وفاة ابنها. تستقبلهم بالأحضان والدموع، وتجلس شاردةً تحكي عن اكتشاف مقتل وسيم في روسيا بعد كابوس اختفائه الطويل، ثمّ ترجع وتسأل عن أخبار آخر قافلة ذهبت إلى رفح. لم تكن “أربعون” وفاة ابنها قد مرّت بعد، حين راحت تبعث رسائل عبر هاتفها الجوال تدعو فيها إلى تظاهرة بالشموع لدعم أهل غزّة. شاهندة هي هكذا، مهما كانت قاسية مأساتها. النضال يستمر، لأنه جزء من حياتها منذ أكثر من نصف قرن.
لم تمنعها وفاة والدها وهي في السابعة عشرة من التمسك برغبتها في الزواج بابن عمتها صلاح حسين في مواجهة أمّ تقليدية. اخترعت الحيل، أضربت عن الطعام، وهربت مرتين. كل هذا فعلته محمّلة إرث أب، ضابط شرطة تقدمي، دفع ثمن آرائه «الوفدية»، إذ صدرت أوامر نقل تعسفية، قادته مع أسرته من مرسى مطروح إلى قنا. على الرغم من تلك الظروف، كان الوالد يصرّ على متابعة قراءات أولاده الصيفية، تذكر منها شاهندة رواية «غادة الكاميليا»، بسبب اعتراض الأم عليها. فعلت ما فعلت، متذكرةً وصية أبيها، بأن «تدافع عن رأيها حتى الموت»، واثقةً من أنه كان سيدعم زواجها بذلك الشاب الذي سافر إلى فلسطين عام 1948، ثم خاض حرب الاستنزاف مع المحتلّ الإنكليزي في منطقة القناة سنة 1951، وناضل ضد تهرّب إقطاعيي قريته كمشيش من قانون الإصلاح الزراعي في 1952.
كانت شاهندة آنذاك صغيرة، مبهورة بما تسمعه عن ابن عمتها من قصص بدت لها بطولية، هي التي اقتصر دورها على نقل حقائب سلاح كان سيُستخدم لـ«القضاء على عملاء الاستعمار في الداخل». لم تظهر مهارتها في «العمل وسط الناس» كما تسميه، إلا تحت تأثير مدرستها الماركسية وداد متري، (إحدى رفيقاتها الثلاث في فيلم «أربع نساء من مصر» لتهاني راشد)، إذ أسهمت في حملة تسجيل النساء في جداول الانتخابات. كانت هذه من أولى الخطوات التي قرّبت شاهندة من الحزب الشيوعي المصري قبل انضمامها إليه مع صلاح حسين أواخر 1957.
عندما اعتُقل أغلب الرفاق عام 1959، كانت هي قد انتخبت في الاتحاد القومي، بعد مواجهة شرسة في كمشيش، ومناظرات مرهقة داخل خلية الحزب عن جدوى العمل في جهاز الدولة الناصرية. كانت تفضل النضال بعيداً عن «نقاشات مثقفين لا علاقة لها بالناس»، عن «البورجوازية والطبقة المتوسطة ولّا مش عارفة إيه»، أو إذا كان النظام الناصري «رأسمالية دولة أو لا». أمضت وقتها في كمشيش، حيث «المعركة الحقيقية» إلى جانب الفلاحين المتمردين على قرون من السخرة.
كانت تسكن في الإسكندرية حيث عمل صلاح في شركة التجارة الخارجية. ومن أجل كمشيش، تترك أولادها الثلاثة عند والدتها أو مع «دادة» تذكرها بامتنان لأنها منحتها «حرية حركة كاملة». لم تكن حياة أسرية تقليدية روتينية تلك التي جمعت شاهندة مقلد وصلاح حسين، بل حياة غسل فيها «الحب المنتصر على كل شوائب الرجعية»، على حد تعبير «الرفيق» إلى «الزميلة الغالية العزيزة» غداة زواجهما.
ثم انقلبت الدنيا فجأة. بعد معركة طويلة مع الإقطاعيين من دون دعم يُذكر من السلطة الناصرية، وبعد إبعاده عن الحياة السياسية أسوة بـ«أعداء الاشتراكية»، اغتيل صلاح حسين في 30 نيسان (أبريل) 1966، في أوج الدعاية الرسمية لـ«القضاء على تحالف رأس المال والإقطاع». لم تكن شاهندة لتترك المأساة تحطّمها. تصدّرت موكب الجنازة الغاضب، وهتفت في التظاهرات المطالبة بمعاقبة المسؤولين عن الاغتيال، ودأبت على إرسال مئات التلغرافات لمحاكمتهم. كان الحكم مخيّباً لآمالها: «القاتل المأجور» عُدّ المذنب الرئيسي، فيما أكّدت «كل الشواهد والبراهين وتقارير الأمن أن المستفيدين هم الإقطاعيون في المقام الأول» كما تحكي في مذكراتها.
رفضت دعوات خلع ملابس الحداد سنوات طويلة. لم يكن الأسود تعبيراً عن حزنها الدفين فقط، بل أيضاً راية إصرارها على معاقبة قتلة زوجها. لم تتردّد إلا مرة، تحت ضغط أخيها الأصغر الطيّار أشرف مقلد الذي استشهد في حرب الاستنزاف عام 1970، فاتّشحت بسواد أحلك. لكنها تغلبت على حزنها مرة أخرى، وشاركت في تأسيس «حزب التجمع» اليساري عام 1976، وفي تأسيس اتحاد الفلاحين داخله، ورشحت نفسها لمجلس الشعب في 1977 و1979 و1984.
لم تتخلَّ عن الأسود إلا رمزياً بعد اغتيال أنور السادات، عضو مجلس قيادة الثورة المسؤول عن دائرة كمشيش الذي هدّد فلاحيها في عام 1953 قائلاً: «سوف أقيم لكم المشانق هنا». اعتُقلت مرتين في عهده، سنة 1975، بسبب تظاهرات في حلوان لا علاقة لها بها، وفي أيلول (سبتمبر) 1981، مع مئات المثقفين. واليوم، يَصدُر الحكم في استئناف شاهندة على «حبسها ستة أشهر مع الإيقاف، وتغريمها مبلغ عشرة آلاف جنيه»، بعد دعوى عائلة الفقي التي رأت ما روته عن تاريخها الإقطاعي، في حوار لمجلة «نصف الدنيا» وفي مذكراتها: «إهانة». الإقطاع يعود متغطرساً، تشجعه قوانين إعادة النظر في الإصلاح الزراعي، لهذا شاركت أخيراً في تأسيس «لجنة التضامن مع فلاحي الإصلاح الزراعي».
ما زالت تفضّل الشارع على القاعات المغلقة. قد تشرح لك بلهجة عضو الأمانة العامة لـ«حزب التجمع» أنّ «ما أصاب الحزب من ضمور هو نفسه ما أصاب الأحزاب المصرية جميعها»، إلا أنها تفضّل أن تتحدث عن «مخاض جديد» يعيشه العالم، وأن تترك عفويتها ـــ لا «ديسيبلين» الكادر السياسي ـــ تحدّد ردود أفعالها.
اتشحت بالسواد من جديد بعد نبأ اغتيال ابنها وسيم في أيلول (ديسمبر) 2008. تحاول أن تستدرك نفسها التائهة في مواجهة قتلة غير أولئك الذين اعتادت قتالهم. «أرجو أن أتجاوز هذه الصدمة المفجعة» تقول. لا أجد ما أقول لأعبّر عن ثقتي بـ«الأم البطلة» التي «خاضت معارك كثيرة من أجل وطنها وأولادها»، كما كتب لها ابنها في رسالة مصفرّة أبرزتها لي في ختام لقائنا.


5 تواريخ

1938
الولادة في شبين الكوم (مصر)

30 نيسان/ أبريل 1966
اغتيل زوجها صلاح حسين

1976
شاركت في تأسيس «حزب التجمع»

2006
صدر كتاب «من أوراق شاهندة مقلد»، سيرة ذاتية عن «دار ميريت»

24 شباط/ فبراير 2009
الحكم في الاستئناف على إدانتها بـ«إهانة» عائلة الفقي الإقطاعية