في مخيّم الشاطئ في غزّة، تربّى على أنّه في إقامة مؤقتة... واليوم يحتاج إلى «ترتيبات خاصّة» لدخول فلسطين. لم يحمل حقيبةً مدرسيّة، بل كاميرا صوّر بها أحوال اللاجئين، وأوصلته إلى «كان». اليوم يدافع عن «فنيّة» تجربته، ويسعى إلى «تحرير السينما من الاحتلال»

محمد شعير
«انتظار»، ليس فقط عنواناً لأحد أهمّ الأفلام التجريبية للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، فالكلمة نفسها تلخّص حياته. في المقهى حيث التقيناه، كان مشهراوي غارقاً في الاتصالات الهاتفيّة، فقد ضاع جواز سفره. اتّصل بكلّ أصدقائه والعاملين معه في فيلم «الحمّالون» الذي يصوّره حالياً عن عمالة الأطفال. وكلّما أخبره أحدهم بأنه لم يعثر عليه بعد، كان يخفي توتره وقلقه في فناجين «القهوة الإيطالية» التي يعشقها، تماماً كما يعشق السينما الإيطالية لأنّها كما يقول «حميمة ودافئة». فقدان جواز السفر ليس «كارثة» كبيرة بالمقارنة مع ما واجهه من ظروف محبطة. هو ممنوعٌ من دخول غزّة، حيث يقيم أهله، وممنوعٌ أيضاً من دخول رام الله، حيث مكتبه وشقّته.
يحتاج مشهراوي إلى ترتيبات خاصّة من السلطة الفلسطينية، تسمح له بالدخول لفترة قصيرة، كذلك فإنّ خروجه من فلسطين كـ«اليانصيب». استغرق وصوله إلى القاهرة عشرة أيام، حيث شارك في مهرجانها السينمائي الذي منحه جائزة أفضل سيناريو عن فيلمه «عيد ميلاد ليلى» في كانون الأوّل (ديسمبر) الماضي. لكن لا مجال للمقارنة بين معاناته هذه وما رآه في غزّة. كان «مثل شخص لا يملك مالاً لشراء حذاء، وإذا به يرى آخر ليس له قدمان». صاحب «حتّى إشعارٍ آخر» في حالة انتظار دائمة، ورثها عن عائلته التي تركت منزلها وأرضها في يافا عام 1948 وهي تعتقد أنّ إقامتها خارج الوطن لن تزيد على أسبوعين، وأنّ عصابات «الهاغاناه» الصهيونية سترحل بسرعة. طالت تلك الإقامة المؤقتة أكثر من ستين عاماً. ربت العائلة أبناءها في مخيم «الشاطئ» للاجئين في غزّة، على أنّ كل شيء مؤقّت، بما في ذلك الاحتلال الذي لا يراه المشهراوي أكثر من «حادثة في حياة فلسطين، قد يستمرّ عشرة أعوام أخرى أو حتى مئة عام، لكن لا بدّ من أن يخرج من أرضنا في النهاية، هكذا تقول قوانين التاريخ».
الحياة الموقتة بترتيباتها من فقر ومعاناة لم تتح لرشيد التعلّم. كانت لديه طموحاتٌ فنية، فقد بدأ بالنحت والرسم، ثم اهتمّ بالتصميم المعماري والإضاءة. في العشرين من عمره، حمل الكاميرا وصوّر بيته وأهله، وأحوال اللاجئين... لكنّه لم يخطط ليكون مخرجاً سينمائياً. إذ لا حركة سينمائية بمعنى الإنتاج والصناعة، ولا طواقم تصوير، ولا معدّات مونتاج، ولا دور عرض. لم يكن يمتلك إلّا «مواضيع فنيّة في الحياة»، فاستعان بالسينما ليحكيها. فيلمه القصير الثاني «جواز سفر» كان «تجربة»، وقد أدرك أنّه مخرج سينمائي عام 1987 حين أنجز فيلمه الثالث «الملجأ» الذي عرض في «مهرجان برلين السينمائي» ولم يكن رشيد قد تجاوز الثالثة والعشرين.
هكذا أصبح مخرجاً بالمصادفة، في وقت كانت فيه السينما الفلسطينية «تخلو عملياً من السينما» التي كانت تهتمّ فقط بخدمة أحزاب وتنظيمات. من هنا، وجد نفسه معنياً بالبحث عن «سينما بديلة»، جيدة ومختلفة عن السائد. يرى مشهراوي أنه مع زميليه ميشيل خليفي وإيليا سليمان «من رموز تلك السينما الفلسطينية الأصلية». أسسوا تياراً يبحث عن لغة فنيّة أخرى، تتجاوز المباشرة والصراخ، «عن سينما لا يكون فيها الفلسطيني مجرد ضحيّة، بل يكون مواطناً يمكن أن يبكي بسهولة، وأن يكون سيئاً، أو أن يكون عميلاً، أو أن يكون المقاتل والمحامي وصاحب القضية».
يرى أن كونه فلسطينياً، لا يعفيه من بذل الجهد الفنّي والإبداعي، ومن محاسبة الجمهور. لكنّه يلفت إلى أن تفاعل جمهور العربي معه، يبقى محكوماً بأفكار مسبقة كثيرة عن فلسطين، قريبة من الشعارات، ونابعة من عجز عربي تجاه «القضية»، يولِّد شعوراً لديه بأنه عندما يتعاطف مع فيلم فلسطيني، فهذا يضيف إلى وطنيته. ويشرح رشيد: هذا الحب الصادق لفلسطين، والشعور بالعجز عن لعب أي دور للمساهمة في خدمة القضيّة، يتحول لدى كثير من المشاهدين إلى «حب أعمى» لكل ما هو فلسطيني. وهذا أمر لا يحبذه كثيراً: «نحن بشر مثل كل الناس، لدينا إيجابياتنا وسلبياتنا، نصنع أفلاماً جيدة أحياناً، ورديئة أحياناً أخرى».
وفي المقابل لا ينكر هذا السينمائي أن الأعمال الجيدة يمكنها أن تساعد «القضية»، وتضعها في بؤرة الضوء، باعتبارها لغة عالمية. السينما «لن تستطيع إخراج الاحتلال، ولكن بإمكانها تغيير وجهه، والتأثير في نظرة العالم إلى قضيّتنا، وهذا يؤدي مع مرور الوقت إلى نتيجة إيجابية».
يريد مشهراوي «تحرير السينما من الاحتلال»: «لنفترض أن الاحتلال انتهى غداً أو بعد خمسين عاماً، ألن يكون هناك سينما فلسطينيّة بعد ذاك؟ أريد سينما تشبهنا، متحررة من ضغط الواقع، ولا يمثّل الاحتلال هاجسها الوحيد، لأن لدينا أسئلتنا الاجتماعية والإنسانيّة والذاتيّة الأخرى». يقول صاحب «حيفا» إنّه عندما يكون في رام الله، يرى من شبّاكه ما يشاهده الناس على شاشة «الجزيرة»، «ولا أريد أن أتعامل مع ما أراه من الشباك كمادة إخبارية، إعلامية. سينمائياً، أفضّل ألا أحكي عمّا أراه من الشباك مباشرة، بل أن أنطلق منه بحثاً عن مادة فنيّة وإنسانيّة يمكن أن تصبح هي الحكاية».
لكن ألا يتجاهل بمنطقه هذا المسألة الفلسطينية الأساسيّة؟ «كلا بتاتاً. لكن بإمكاني أن أتعامل مع أسئلة أخرى». في فيلمه الأخير «عيد ميلاد ليلى» نبرةُ نقدٍ عالية لشعبه وقياداته. صرخة ضد الفساد، ورغبة في العدالة والنظام. الاحتلال موجود في الفيلم، لكن «كي نتحرر منه بسرعة أكبر، لا بدّ من أن تحدث أشياء أخرى كثيرة». وجهة النظر هذه هي أيضاً حجر الأساس في شريطه القصير «توتر» الذي أنجزه بين الانتفاضتين: «لم نكن في حالة حرب، ولا في حالة سلام، لا في انتفاضة ولا في دولة. حاولت بالصمت أن أعبّر عن هذه الحالة، أن أدخل الكاميرا إلى نفوس الناس، إلى مشاعرهم وعيونهم وأحاسيسهم وأفكارهم». أما فيلمه «حيفا» الذي أنجزه بعد أوسلو، فأراد أن يقول من خلاله إنّه «من دون يافا وحيفا وعكا، لا تكون هناك فلسطين، وحذّرتُ من اتفاقية أوسلو وانعكاساتها السلبيّة علينا».
قد تكون باريس ــــ حيث استقر منذ 2002 بعدما منع من دخول رام الله ــــ نقطة أثّرت في حياته. المدينة بالنسبة إليه «مدينة الكادرات المفتوحة»، غنية بـ«خلطة من كل العالم»، وجد فيها المسافة الفاصلة عن عالمه الحقيقي، تلك «المسافة الضرورية لتفهم عالمك أكثر، وتراه بصورة أفضل». لكن ليس لمشهراوي مكان واحد للإقامة في العاصمة الفرنسيّة. لقد مرّ على شقق متعددة وفنادق كثيرة، وهو دائماً في حالة انتظار، ولن يستقر قبل عودته مع عائلته إلى يافا... عندما تتحرّر فلسطين!


5 تواريخ

1962
الولادة في مخيم الشاطئ في غزّة

1981
أخرج أول أعماله التسجيلية «الشركاء» (4 دقائق)، وبعد خمسة أعوام، أنجز شريطه الثاني «جواز السفر»

1993
شارك فيلمه الروائي الأول «حتى إشعار آخر» في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان»، وحصل في العام ذاته على جائزة «الهرم الذهبي» من «مهرجان القاهرة السينمائي»

1996
عاد إلى رام الله وأسس «مركز الإنتاج والتوزيع السينمائي» في محاولة لتطوير طواقم إنتاج محلية

2009
يعمل على الفيلم التسجيلي الطويل «الحمالون»، عن عمالة الأطفال في مصر والعراق وسوريا وفلسطين