منى عباس فضل *تتضارب التوقعات وتتباين الآراء والتحليلات بشأن حجم الآثار التي خلّفتها الأزمة الائتمانية العالمية على دول الخليج. بعض تلك الآراء تنبأت باحتمال حدوث تراجع وتباطؤ في النمو، فيما قلل بعضها الآخر من تأثيراتها، باعتبار أنها ستكون محدودة، بل تيقن آخرون أنها ستترك آثاراً لمصلحة المواطنين الخليجيين. إذاً بين هذا وذاك، باتت الأزمة بالفعل، ظاهرة تحيّر خبراء المال والمصارف والاقتصاد، تماماً كما هي تحيّر المواطن الخليجي، لا سيما مع غياب الشفافية وشحّ المعلومات المتاحة عن حجم الديون المترتبة على المؤسسات، بهدف تقييم تداعيات الأزمة محلياً بدقة. في كل الأحوال هناك من يدعو إلى التريث والرصد وعدم الاستعجال في إصدار الأحكام النهائية، أو حتى الاستغراق تفاؤلاً بسرعة انهيار النظام الرأسمالي ونهوض الاشتراكية مكانه. ومع ذلك، يبقى السؤال المطلوب طرحه ملحاً لاختبار تلك التحليلات والتوقعات، حتى أثناء التريث والمراقبة، وهو يتلخص في الآتي: ما هي أبرز التأثيرات الفعلية للأزمة الائتمانية على دول الخليج؟
اقتصادياً، سجل المحلّلون تراجعاً في مؤشرات البورصات المحلية، ما رتّب عليها خسائر مالية فادحة، إضافة إلى ارتفاع معدل السحوبات من البنوك وضمور الاستثمارات والمدخرات، ما يعني احتمال حدوث خلل فى حركة التدفقات النقدية والمالية، والأهم، على الاحتياطيات النقدية. إضافة إلى ذلك، البدء بتجميد تمويل بعض المشروعات العقارية، وانكماش في مجال الأعمال، وخصوصاً في القطاع المصرفي، فضلاً عن ارتفاع المخاطر المالية التي جعلت المستثمرين الأجانب يسحبون أموالهم، ومعهم الكثير من الصناديق الاستثمارية الأجنبية، ويجمدون معاملاتهم فى أسواق النقد والمال المحلية.
من المعلوم أن لجميع دول الخليج أصولاً مالية ضخمة في الولايات المتحدة، تقدر بنحو 1.8ـــــ2 تريليون دولار. واستناداً إلى التقارير، فإن 60% من قيمتها هي بالدولار الأميركي. وعليه فلا يمكن لصانعي القرار إنكار أن هذه الأصول لم تتأثر بأزمة السوق العالمي. هذا من جهة، من جهة أخرى، فمن المعلوم أن معظم الأصول المحلية لا تديرها البنوك بل «الصناديق الاستثمارية السيادية»، والأخيرة تعرضت هي الأخرى، حسب المراقبين الماليين، إلى خسائر كبيرة جراء انخفاض قيمة أصولها بسبب ارتفاع تكاليف التمويل ونقص السيولة، في ظل تعتيم على حجم التدفقات التي حظيت بها أصول تلك الصناديق بسبب ارتفاع العائدات النفطية خلال الفترة السابقة.
والأهم من هذا وذاك، تأثر حجم الطلب على سلعة النفط التي تعدّ مصدراً رئيسياً للدخل الوطني، إضافة إلى سلعتي البتروكيمايات والألومنيوم؛ فقد شهد السوق انخفاضاً حاداً لسعر برميل النفط إلى ما دون 50 دولاراً بعدما وصل سعره في فترة من الفترات إلى حوالى 147 دولاراً للبرميل حتى منتصف 2008. وهذا بلا شك سيؤثر حتماً على حجم الموازنات العامة لهذه الدول وعلى معدلات نموّها الاقتصادي.
إلى هنا، وحكومات المنطقة لم تفصح مباشرة عن حقيقة أوضاعها الاقتصادية. لكن تقارير السوق ومؤشراتها فعلت ذلك، حيث أشارت إلى أن إجمالي ديون دول الخليج بالعملة الأجنبية التي سيحل سدادها بين 2008ـــــ2009، تبلغ 50 مليار دولار، وكلها في صورة قروض وسندات، يضاف إليها نحو 6.9 مليارات دولار بالعملة المحلية، مع الأخذ في الاعتبار الاتجاهات الاستهلاكية للمواطنين الخليجيين، وتضخم حجم مديونياتهم الشخصية للبنوك وكثافة استخدامهم للبطاقات الائتمانية، إذ يقدر حجم سوق بطاقات الائتمان العالمي بنحو 900 مليار دولار، تقتطع دول الخليج منها قرابة 60 مليار دولار، لا سيما أن مبيعات التجزئة في هذه الدول تشهد نمواً مطرداً باستمرار يزيد عن نسبة 20% سنوياً، وبالتالي تتجاوز تلك المبيعات تقديرياً مبلغ 50 مليار دولار.
مع كل ما قيل، هناك فريق المتفائلين، ممن يجدون أن الأزمة الائتمانية ليست كلها شراً مطلقاً، بقدر ما سيكون لها آثار إيجابية متوقع منها أن تعدل موازين السوق الخليجي، وبالتالي ستخفض التضخم بنسب تتراوح بين 9% و14% وربما أكثر، كما سيشهد السوق انخفاضاً في أسعار العقارات والإيجارات وتكاليف السلع من مواد البناء والتشييد والوقود وتذاكر السفر، والخدمات المصرفية والائتمانية وتحسينها. حتى أن هبوط سعر برميل النفط سيخفض من تكاليف النقل والبناء، الذي سيخفض بالمقابل أسعار السلع الاستهلاكية، مما يصب في مصلحة المستهلك، وخصوصاً مع تراجع معدلات الاستهلاك.
جزء من المتفائلين على يقين بأن دول المنطقة بإمكانها تجاوز التأثيرات السلبية للأزمة بفضل الإيرادات النفطية وفوائض الموازين الحكومية التي تجاوزت 700 مليار دولار سنوياً خلال السنوات الخمس الأخيرة، غافلين بالطبع عن أن سعر برميل النفط إن لم يرتفع في حدود سقف من 60ـــــ70 دولاراً للبرميل، وإن لم توازن دول المنطقة نفقاتها في الوقت نفسه، فإن الوضع سيكون كارثياً عليها وستتعثر خطواتها في تجنب آثار الأزمة. هنا يستوجب القول إن استخدام فوائض العوائد النفطية لمواجهة تداعيات الأزمة، يعني ما يعنيه من استنزاف للمال العام، وبالتالي عدم تمتع مواطني هذه الدول بفوائضها. في هذا الصدد، يشير أحد المحللين إلى أنه لا مبرر اقتصادياً البتة لقيام الدولة بإنقاذ المؤسسات المالية المتعثرة في الخليج بواسطة الفوائض، وخصوصاً أن بعضها يغذي مشاريع طفيلية ويساهم كثيراً في تضخيم أسعار الأصول وتفريخ الشركات الوهمية، وإن كان هناك من داع لذلك، فلا بد من معرفة حجم التدخل ودوافعه.
وبعد قول كل شيء؟ أهذا كل شيء؟ بالطبع لا. هناك المزيد، حيث حلت الأزمة على الرؤوس في ظل خلل إداري للاقتصاد وضعف آليات الرقابة العامة في السلطة التنفيذية والتشريعية، وفشل في المحافظة على الثروات، واقتصاد حر منفتح تغيب عنه القيود على حركة رؤوس الأموال، وهناك إصرار بعض الدول على ربط عملاتها بالدولار، في الوقت الذي يُسعَّر فيه النفط بالدولار.
صحيح أنّ دول المنطقة بعيدة عن مركز الزلزال، والصحيح أيضاً، أنّ أسواقها مرتبطة بالنظام المصرفي العالمي بسبب ارتباط أصول المال والبورصات بعضها ببعض، وبالتالي فإن الآثار، حتى وإن قيل إن قياسها يتطلب التريث، إلا أنها بدأت تتغلغل في الحياة الاقتصادية للمجتمعات الخليجية.
الأزمة لا تدور رحاها على كوكب آخر لا صلة لنا به، وإذا كانت السياسة المالية وقيم السوق الحر قد تغلفت بالنسيج المحلي، فإنها في حقيقة الأمر قد غيرت من سلوك الأفراد وخياراتهم وأساليب عيشهم، كما انعكست مزيداً من الاحتياجات والمتطلبات اليومية التي عززتها ثقافة الاستهلاك. وعليه، فإن ما لم يُتحدّث عنه بكثافة هو التحسب لأسوأ الاحتمالات، وكيف سيُتعامل معها؟ وهل من ضمانات بعدم تأثر مستوى الخدمات، من طبابة وتعليم ومسكن وتوفير فرص عمل للمواطنين؟ هل من توقعات بفرض ضرائب؟ وهل من توقعات بوقف عملية التخصيص التي بدأت في بعض القطاعات وأثبتت فشلها؟ ثم ماذا عن جيوش العاطلين المتوقع ارتفاع أعدادهم بسبب إقفال بعض المصارف والشركات أو اندماجها؟ إلى أي مدى تستطيع موازنات هذه الدول تحمل فترة الكساد العالمي التي أعلن عنها، ولم تحدد فترة نهايتها في ظل نظام ينخر فيه الفساد والفوضى؟
* باحثة بحرينية