ياسين تملالي *في انتخابات نيسان / أبريل 2004، لم يتحمس جميع أقطاب المؤسسة العسكرية الجزائرية لإعادة انتخاب عبد العزيز بوتفليقة. وتجلى عدم إجماعهم عليه من خلال «السماح» للأمين العام لجبهة التحرير الوطني (الحزب الواحد الأسبق)، علي بن فليس، بمنافسته. أما اليوم، وانتخابات نيسان / أبريل 2009 على الأبواب، فالجيش يقف صفّاً واحداً وراء الرئيس، إذ لم يبدِ أحد من قادته، ولو عرضاً أو تلميحاً، معارضته لترشحه. وقد توّج هذا الاصطفاف عشر سنوات قضاها بوتفليقة في ترويض المؤسسة العسكرية وكسر شوكتها.
في 1999، لم يكن لقادة الجيش من خيار، وقد فاجأتهم استقالة يمين زروال ورفضه التراجع عنها، سوى قبول تعيين بوتفليقة «مرشحاً للإجماع الوطني». كان واضحاً أن هذا المرشح لم يكن مستعداً، بحكم ماضيه في السلطة ومعرفته بخباياها، لأن يكون دمية تحرّكها أصابعهم، لكن لم يكن أمامهم من بديل آخر، فالأزمة الاقتصادية كانت تنذر باندلاع اضطرابات عنيفة، والمنظمات الحقوقية العالمية كانت تدعو إلى محاكمتهم بتهمة ارتكاب جرائم كثيرة تحت غطاء «مكافحة الإرهاب الإسلامي».
وكانت الصفقة مع بوتفليقة واضحة: عليه، كرئيس مدني وشخصية عالمية مرموقة، أن يبعد عنهم شبح المتابعات القضائية الدولية وأن يعمل على «تحسين صورة البلاد في الخارج». أما شؤون الداخل، فليس له أن يتخذ فيها قرارات مصيرية من دون التشاور معهم. وفي المقابل، سيعملون على تقديمه إلى الشعب كمخلص البلاد ومهديها المنتظر، ويجمعون حوله بعض التيارات المعارضة، الإسلامية منها والعلمانية. وكان أول عرابين محبتهم له تأجيل الإعلان عن استسلام «جيش الإنقاذ الإسلامي» أشهراً عديدة كي يبدو ثمرةً لذكائه وحكمته وحنكته التفاوضية.
ورضي بوتفليقة بالصفقة، فهي تجسد حلماً تبخر في 1979، عندما رشح الحزب الواحد للرئاسة بدلاً منه الشاذلي بن جديد. ونجحت الاستخبارات العسكرية في إحياء ذكر «وزير خارجية بومدين» بعدما كاد يندثر، وكوّنت حوله جبهة اجتمع فيها على حبه «إخوان» حركة مجتمع السلم و«علمانيو» التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية. وأدّى هو الدور المنتظر منه على أحسن وجه. وعد في الخارج بـ«عصرنة الجزائر» وإخراجها من دائرة العنف والاقتصاد المخطط، فنُسيت مآثر الجنرالات في حرب التسعينيات الأهلية. وكانت القوى العظمى مستعدة للنسيان، فما كان يهمّها غير بترول البلاد وغازها وموقعها الاستراتيجي.
أدّى بوتفليقة دوره ببراعة، ما زاد من إدمان النظام عليه وعلى سحر بيانه، غير أنه لم يكن يريد أن يبقى، كما قال، «ثلاثة أرباع رئيس». ردّد غير مرة أنه لا يرى مانعاً من «العودة إلى البيت» إذا لم يتح له الاضطلاع بصلاحياته كاملة. وكانت أولى مراحل «ابتزازه» للمؤسسة العسكرية محاولته في 2000 إنشاء هيئة أمنية خاصة داخل وزارة الدفاع وتعيين أحد أساطين الاستخبارات العسكرية في السبعينيات والثمانينيات على رأسها. وتصدى الجيش لهذه المحاولة التي استهدفت أساساً جسّ نبضه، فانتقم منه شر انتقام: صرح لوكالات الأنباء العالمية أنّ العسكر يتدخلون في كل شيء بما في ذلك تعيين الوزراء، ولمّح إلى أن 15 جنرالاً يتحكمون في مقاليد التجارة الخارجية كلها، ما كان تأليباً للشعب عليهم واحتماءً به منهم في الوقت ذاته.
وللتملص من قبضة الجيش، استعان بوتفليقة ببعض قدامى النظام (كوزير الداخلية الحالي نور الدين زرهوني)، فكانوا أداته في بسط نفوذه في الوزارات والإدارات. ولتكوين قاعدة قوية من المؤتمرين بأمره، استأثر بمسؤولية التعيين في مختلف المناصب على اختلافها. ولأول مرة في تاريخ الجزائر، أصبح الرئيس هو من يعين، عدا الوزراء والسفراء، مدراء التعليم والصحة والنقل والزراعة والري والبناء والعمران والمناجم والغاز والكهرباء على مستوى المحافظات، بل حتى أمناء الدوائر والبلديات.
كان سلاح بوتفليقة وهو يهدّد حلفاءه بالنشوز، علمه اليقين بأنهم لا يملكون أن ينقلبوا عليه من دون أن تدخل الجزائر دوامة جديدة تعيدهم إلى واجهة الأحداث وتحرك المطالبة بمحاكمتهم. وكان له ما يكفي من «الشرعية التاريخية» ليتصرف على هذا النحو، فهو أحد أقدم ضباط جيش التحرير، ما يميزه عن الكثير منهم ممن التحقوا بالثورة في آخر سنواتها بعدما أمضوا نصف عمرهم في جيش الاحتلال الفرنسي.
كان بوتفليقة يعرف أنّ لا فضل له في استسلام «جيش الإنقاذ الإسلامي»؛ فهذا التنظيم أوقف عملياته أواخر 1997، أي سنة ونصف سنة قبل وصوله هو إلى الحكم. لذلك قرّر أن يكون له «فضله الخاص» في «استتباب الأمن والسلام»، فعزم أمره على «تعميق المصالحة الوطنية» بإعلان العفو العام عن الإسلاميين المسلحين. ولاستمالة فلول «جبهة الإنقاذ»، لم يتردّد في وصف الانقلاب على انتخابات 1992 التي فازت بها بـ«العنف غير المبرر»، ما أثار حفيظة مهندسي الانقلاب من الجنرالات. وكان وهو يدلي بهذا التصريح، يعي تماماً أنّ قطاعات واسعة من العسكر سئمت «الحرب على الإرهابيين»، فهي أخّرت ركبها عن ركب جيوش المنطقة، وخصوصاً غريمها المغربي. كما كان واعياً إلى أنّ التقاعد هو مآل أغلب القيادات العسكرية وأنّ خلفاءهم أكثر تحمّساً لـ«تحديث الجيش» منهم «لاستئصال الإرهاب الإسلامي».
واستغلّ بوتفليقة البحبوحة المالية (بدأت لحسن طالعه سنتين بعد اعتلائه السلطة) في إطلاق مشاريع اقتصادية عملاقة، ضمن بها قاعدة كبيرة من الناخبين، استغلّها ليغدق على الجيش بكرم حاتمي معوضاً إياه عن الحرمان الذي عاشه في التسعينيات بفعل أزمة اقتصادية خانقة وحظر غير معلَن على مشترياته من السلاح. وحوّل هذه السياسة الذكية تجاه المؤسسة العسكرية (تحجيم دورها السياسي وتحسين أوضاع العاملين فيها) إلى إحدى رايات دعايته، فصوّر نفسه كرئيس يريد «إقامة الدولة المدنية». وأثارت هذه الدعاية ثائرة الجنرالات ممن دأبوا منذ 1992 على التدخل في كل صغيرة من شؤون الحكم. لكن ما العمل وعهد الانقلابات قد ولّى؟ حاولوا أن ينحّوه من السلطة ديموقراطياً، ففبركوا له عشية انتخابات 2004 خصماً من قلب النظام لا خوف منه على النظام، اسمه علي بن فليس.
وجرت الانتخابات وفاز بها بوتفليقة بالرغم من تآكل شعبيته، وما كان ليفوز لولا مساندة أغلبية أجنحة النظام له وتجند قطاعات من الجيش إلى جانبه، وخصوصاً أجهزة الاستخبارات. وبدأ عملية تصفيات الحسابات: أقال أهم قادة حركة 1992 الانقلابية بمن فيهم أكثرهم بأساً، محمد العماري. ولم يسلم منهم سوى من فهم ـــــ مثل الجنرال محمد مدين، مسؤول الاستخبارات العسكرية ـــــ أن النظام مقبل على مرحلة أخطر ما يهدّده فيها الحركات الجماهيرية، وأن مواجهة هذا التهديد تتطلب تعزيز «قوات مكافحة الشغب» لا نشر الدبابات في الطريق العام. وما كان موقف باقي قيادات العسكر، وهي ترى رأس هيئة الأركان يُقال من منصبه من دون كلمة شكر وعرفان، سوى الاصطفاف وراء «رئيس كل الجزائريين».
وكانت سنوات عهد بوتفليقة الثانية استكمالاً لمسار تحجيم دور المؤسسة العسكرية في اتخاذ القرار: أغدقت عليها أموال طائلة لاستمالتها، وفي الوقت نفسه، استبدلت أهم وجوهها بأخرى لم تتقلد مسؤوليات كبيرة في العشرية المنصرمة. قائد الاستخبارات، محمد مدين، أحد جنرالات التسعينيات القلائل الذين بقوا في مناصبهم، بل رقّوا إلى رتب أعلى، إلا أنه لم يعد «شريكاً» في السلطة. أصبح فقط إحدى دعائمها، كما كانت حال قادة الأجهزة في الماضي. أما ذو السطوة، قائد الأركان، فتحول إلى مسؤول عن مشتريات الجيش من السلاح والعتاد. لم يلتحق الجيش بالبرلمان في بيت الطاعة، فله من القوة ما يحميها من جبروت السلطان، إلا أنه فقد الدور الذي أدّاه في التسعينيات واستلذّ تأديته. المشكلة أنه لم يفقده لمصلحة «السيادة الشعبية» بل لمصلحة السيادة البوتفليقية على الشعب الجزائري.

* صحافي جزائري