تعمد إسرائيل إلى استعمال علم الآثار لتسييس المكتشفات الاثرية وتأريخها بحسب التوراة. هذه التقنية المتبعة في القدس امتدت اليوم إلى الجولان، حيث أعلنت السلطات الإسرائيلية إدراج «بوابة إبراهيم» ضمن مواقع السياحة الدينية
جوان فرشخ بجالي
كلما زار رئيس دولةٍ إسرائيل، أضيف إلى جدول أعماله زيارة حائط المبكى ومتحف المحرقة اليهودية. وربما يُضاف في المستقبل زيارة «بوابة إبراهيم» في موقع تل القاضي على هضبة الجولان. فبعدما غيّرت إسرائيل اسم الموقع من العربية (تل القاضي) إلى العبرية (تل دان)، بدأت أعمال التنقيب، وأخيراً الصيانة والترميم والتأهيل. وبحسب مقالة نشرتها جريدة «هآرتز» الإسرائيلية بتاريخ 18 /3/ 2008، افتتحت أبواب الموقع أمام السياح لزيارة «بوابة إبراهيم». والإشارة هنا للنبي إبراهيم الذي قاد (بحسب رواية العهد القديم) الشعب العبري من أور إلى إسرائيل.
أخيراً، وقع الاختيار على بوابة العصر البرونزي (1750 قبل الميلاد) المكتشفة سنة 1979، في تل القاضي. فصدر الأمر بتأهيلها وترميمها تماشياً مع مشروع إطلاق تسمية «بوابة إبراهيم» عليها. وذلك، لتثبيت نظرية علماء التوراة القائلة إن «النبي لوط اختطف من جانب أفراد من قبيلة الدان، فتوجه إبراهيم إلى مدينتهم لإنقاذه. ولو اعتبرنا أن هذا الموقع هو مدينتهم (بما أن اسمه دان) يمكن افتراض أن النبي إبراهيم دخل المدينة عبر هذه البوابة»، حسبما صرّح به مسؤول الآثار في شمال إسرائيل. نظرية لا تمتّ إلى الواقع العلمي بصلة، لكنها كانت كفيلة بتأمين التمويل لإعادة إعمار البوابة وإدخال منطقة الجولان ضمن جدول الزيارات الدينية للأراضي المقدّسة.
وكما يجري في القدس، فالدولة العبرية تعمل جاهدة لإثبات وجودها التاريخي في هذه البقعة من العالم عبر تأريخ المواقع الأثرية بحسب التوراة. بذلك، يرتبط أي اكتشاف على موقع أثري مهم بالتوراة ويؤرّخ حسبها. فلو بقي تل القاضي تحت السلطة السورية، ولو أقيمت هناك حفريات أثرية واكتشفت البوابة لكانت اعتبرت بوابة مدينة من العصر البرونزي، لا أكثر ولا أقل تماماً كما هي الحال مع عشرات المواقع الأخرى.
لكن إسرائيل التي ترفض اعتماد الجدول الزمني الغريغوري (أي قبل المسيح وبعده) المتبع عالمياً تؤرخ وتحلل وتشرح الاكتشافات بحسب ارتباطها بالتوراة. بذلك، يتحول تل القاضي إلى أرض من الجليل، ربما زارها النبي إبراهيم. وتلك ليست المرة الأولى التي يرتبط فيها تل القاضي بالتوراة. ففي سنتي 1992 و1993 أعلنت البعثة الإسرائيلية عثورها على مسلّة (طولها 32 سنتيمتراً وعرضها 22) تحمل كتابة آرامية، قرأ في حروفها علماء التوراة كلمة «بيت داود». فقرروا أنها إشارة إلى منزل الملك داود على الموقع. وبالطبع، رفض عدد من علماء الآثار تلك الترجمة وأعطوا ترجمات مغايرة لها تماماً. لكن، بقيت تلك المنشورات العلمية خارج دائرة الإشكال. ومتحف تل أبيب يعرض المسلّة اليوم باعتبارها «إثباتاً حثياً» على الوجود التاريخي للملك داود في الأراضي الإسرائيلية. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه ما من دليل حثي على وجود أنبياء العهد القديم. لذا، فكل كتابة من خارج هذا المرجع التاريخي إنما تأتي لتثبيته.
تجدر الإشارة إلى أن السلطات السورية كانت قد صنفت تل القاضي باعتباره موقعاً أثرياً، واعترضت أمام اليونسكو على الحفريات التي تُقام عليه، واعتبرت دراسة المسلة بمثابة سرقة لآثارها. بالاضافة إلى أنها تملك إلاثباتات بملكية الأرض من آل الماضي الذين يسكنون اليوم مدينة بانياس. وقد وصفت هناء قويدر تل القاضي في كتابها، «دليل المواقع الأثرية في الجولان»، على الشكل الآتي: «كان مدينة عامرة منذ العصر البرونزي المبكر، وقد ورد ذكرها في نصوص ماري المؤرخة للنصف الثاني من القرن الثامن عشر قبل الميلاد.‏ ومن المرجّح أنها عاصرت ازدهار مملكة إيبلا وخضعت للأشوريين، كما أنها عايشت الفترتين الهلنستية والرومانية».
لكن البعثات الأثرية ووزارة السياحة الإسرائيلية عمدتا إلى تسليط الضوء فقط على بوابة إبراهيم في الموقع واستخدمت (كعادتها) الأسلوب «السلس» للترويج لهذا الموقع الأثري بوصفه ذا خلفية دينية. فأدخلت النصوص التوراة والصور الجملية في منشوراتها، وقريباً ستوجّه الدعوات إلى الصحافة العالمية لزيارة الموقع، حيث زوّد المرشدين السياحيين بكل التفاصيل لتقديم المعلومات النظرية باعتبارها واقعاً علمياً.
هكذا، تبدأ المعلومات بالانتشار، وما هي إلا سنين قليلة حتى تعتبر النظرية واقعاً يصدّقه الملايين، وستستعمل ضمن سياسة «استملاك» الجولان واعتباره جزءاً من إسرائيل القديمة، تماماً كما يجري في حي سلوان في القدس.