عباس الحاج حسن«يجب أن نعمل بكل طاقاتنا للوصول إلى حلول جذرية. فالمستقبل ينذر بأزمة مائية متفاقمة يوماً بعد يوم»، هكذا خلص مؤتمر بروكسل المنعقد برعاية البرلمان الأوروبي في شباط الماضي هذا العام، حيث أطلق صفارة الإنذار للعمل على تدارك الأزمة وانعكاساتها على دول الاتحاد.
هذه الأزمة عالمية الملامح، تحاول كل الدول معالجة أسبابها للحفاظ على مستقبل الإنسان.
المياه ثالث عنصر بعد الأرض والهواء، تتشكل عبرها الحياة وتدور دورتها.
لبنان في قلب هذه الأزمة المتأصلة منذ سنوات طويلة كانت تتصف بالإهمال لهذا الملف والإنماء غير المتوازن والحرب الأهلية، وليس آخر العدوان الإسرائيلي المتكرر والمبرمج على امتداد سنوات طويلة. إن هذه الأزمة خطيرة كونها تلامس كل شرائح المجتمع على اختلاف مناطقهم وتلوناتهم وحتى توزيعاتهم الانتخابية. وكان يفترض أن تمثّل عامل تلاقي كل الجهود لرسم مستقبل للخروج منها بأقل الخسائر الممكنة. والغريب أنه إلى اليوم، ورغم كل ما تحقق ما زالت هناك قرى في عكار وبعلبك وجبل لبنان والجنوب لم تنعم بوصول مياه الشفة إلى منازل مواطنيها.0
إن أغرب ما يكون هو أن تكون تغطية الهاتف الخلوي شاملة لكل المناطق اللبنانية على سبيل المثال (رغم أهمية هذه الخدمة للمواطن) ولا يجد هذا المواطن احتياجاته من المياه التي يروي بها عطش أطفاله. حقاً إنها أزمة أولويات. وهذا الأمر يستدعي الوصول إلى رؤية وطنية حول توصيف المشكلة لتأتي في خطوة لاحقة المعالجات وفق مخطط شامل يحدد سلّم الأولويات بما لا يحمل التأويل أو التسييس.
هذه الأزمة بتشعباتها العديدة تتلخص في ثلاثة محاور أساسية ربما كانت الأهم لكل باحث.
المحور الأول: عدم معرفة الإدارة المائية اللبنانية بالواقع المائي على حقيقته. فلا يمكن الارتكاز على أي أرقام حيث هناك مئات الأرقام المتضاربة ما يجعل وضوح الواقع أمراً بعيد المنال.
المحور الثاني: الهدر القديم ـــــ الجديد لهذه الثروة بشقيها السطحي والجوفي، فمعظم مياه المتساقطات تذهب في البحر ومياه أغلب الأنهار تنحدر نحو البحر من دون أدنى فائدة منها. أما المياه الجوفية وهي الخزان الذي يبقى استخدامه خياراً وطنياً بما له من الأهمية، فنرى استنزافه منذ سنوات الحرب إلى اليوم متمثلاً بآلاف الآبار الجوفية المستخدمة بأغلبها لمصلحة أفراد (وهي في الأساس مياه وطنية لا يحق استخدامها إلا من الإدارة المائية) ما يهدد بنفاد الخزانات الجوفية وبالتالي خسارة التغطية الاحتياطية التي من المفترض أن تختزن لسنوات الجفاف. والخطير في موضوع الآبار الجوفية هو تسرّب مياه الصرف الصحي من خلالها إلى الأنهار الجوفية والقضاء على نقاوة هذه المياه.
المحور الثالث: الأطماع الإسرائيلية في المياه اللبنانية منذ ولادة هذا الكيان الغاصب إلى اليوم. فكل الحروب الإسرائيلية رغم تعدد شعاراتها كانت دائماً تحمل هدف الوصول للمياه والسيطرة عليها.
إسرائيل التي لا توفر جهداً في سبيل اقتناص أي فرصة لإثبات أكذوبة حقها في مياهنا، تتحرك على أكثر من صعيد بهدف وضع الدراسات والحلول الممكنة للخروج من أزمتها المائية، وعلى المسرح الدولي أيضاً تعمل على تأييد استصدار قرارات أممية من شأنها أنسنة المياه، ليس بهدف سوى السيطرة على مياه لبنان وتحويلها إلى ثروة إنسانية تتقاسمها الشعوب العطشى، يقابل حركتها هذه ثبات لبناني؛ فلا يعقل أن يكون هناك أكثر من مئة رسالة دكتوراه لطلاب إسرائيليين في جامعات فرنسا يعالجون أسباب أزمة المياه في كيانهم والحلول التي من شأنها تخفيف حدة الأزمة. ولا نجد ما يتعدى أصابع اليد من أطروحات لطلاب لبنانيين يحاولون تأكيد حقنا في مياهنا ويدحضون كل الأكاذيب التي يسوقها الفكر الصهيوني عن تواصل جوفي هنا أو تداخل هناك.
إن أزمتنا المائية تحتاج إلى إعلان حالة طوارئ مائية وطنية، تجعل هذا الملف في الدرجة الأولى من اهتمامات السياسيين القادرين على صياغة استراتيجية مائية (دفاعية) تعيد الأمور إلى مسارها الطبيعي، فلبنان الذي انتصر على كل المحن وكل الصعوبات، وحقق انتصاراً تاريخياً على إسرائيل بمقاومته واحتضان الدولة والشعب لهذه المقاومة، قادر اليوم على الانتصار لشعبه مجدداً.
إن مبادرة وطنية مائية تجمع كل التناقضات السياسية يقودها المؤتمن على الدستور والوطن فخامة الرئيس ميشال سليمان من شأنها أن تجعل الأمور في مسارها المرتجى، وتعيد الملف المائي إلى الواجهة على الصعيد الداخلي وعلى المسرح الدولي، ليبقى حقنا في كل قطرة ماء حقاً مقدساً ويبقى لبنان وطن الإنسان وروعة هذه الأرض.