عصام العريان *لا تزال السجون المصرية تغص بمئات الإخوان المسلمين الذين اعتقلوا أثناء تضامنهم مع الشعب الفلسطيني ضد الحرب المجنونة على غزة، والتي فشلت في تحقيق أهدافها المعلنة التي تسببت في أضرار بالغة للنظام المصري ووضعه في خانة الراضي على العدوان أو المتواطئ مع العدو بسبب إعلان الحرب من مصر بعد لقاء ليفني ــــ مبارك.
ورغم ذلك العدد الكبير الذي يزيد على 700 معتقل، ومعهم منذ أكثر من سنتين نحو عشرين من قيادات الإخوان الذين يقضون أحكاماً بالسجن 3 و5 و7 سنوات بعد المحاكمة العسكرية السابعة لقيادات الإخوان فى أقل من 15 عاماً، كانت الحملة الأمنية الأخيرة فجر الثلاثاء 3 آذار / مارس لتطاول بيوت 32 من قيادات وسيطة وكبرى، معظمهم يعملون فى إطار النشاط السياسي والفكري وأمانة العمل اليومي ورجال أعمال، مما يدلّك على أبعاد تلك الحملة.
لقد صودرت أموال وممتلكات تقدّر بـ3 ملايين من الجنيهات، وهذا سلوك هدفه تجفيف منابع الأموال لدى الإخوان بعد حجم الإنفاق الذي صاحب الانتخابات البرلمانية الأخيرة في 2005 التي ترشح فيها نحو 165 مرشحاً استحق النجاح منهم، أعلنت لجنة الانتخابات فوز 88 منهم في نجاح غير مسبوق في تاريخ البرلمان المصري. وهذه السياسة المصرية استمرار لنهج المصادرة المالية التي بدأت مع آخر قضية عسكرية كان هدفها الرئيسي رجال الأعمال من الإخوان على أنهم هم المتهمون بتمويل النشاط الإخواني، وخصوصاً في الحملات الانتخابية.
من الجدير بالذكر أن معظم المحكومين مع نائب المرشد العام، المهندس خيرت الشاطر، سيخرجون خلال الشهور المقبلة عند حلول موعد ثلاثة أرباع مدة الحكم (3 سنوات) أو بانتهاء مدة العقوبة مع نهاية العام الحالي، مما يعني في النهج الأمني المصري، ضرورة إحلال غيرهم محلهم كي يبقى الإخوان دوماً تحت المقصلة وحدّ السكين، ولكي يبعث رسالة واضحة بدأت مع عام 1993 وهي أنّ التعامل الأمني هو الأساس، ولا نية لأي احتواء سياسي أو اتجاه نحو الحوار مع الإخوان، وهذا النهج مثلته تصريحات متصاعدة من الرئيس مبارك أهمها تصريحان:
الأول: كانون الثاني / يناير في عام 1993 في لقائه مع المفكرين في معرض الكتاب السنوي عندما رد على سؤال للمفكر اليساري الراحل الكاتب الصحافي الكبير محمد سيد أحمد: لن أسمح بتكرار ما حدث فى الجزائر (التي شهدت فوزاً كبيراً لجبهة الإنقاذ أعقبه انقلاب عسكري وفوضى هائلة لمنع وصول الإسلاميين إلى الحكم عبر صناديق الانتخابات).
الثاني: تصريح خطير للرئيس مبارك أيضاً عام 2005 قال فيه إن الإخوان المسلمين يمثّلون خطراً على الأمن القومي المصري.
أعقب التصريح الأول حملة أمنية في صورة متابعات ومراقبة لصيقة واعتقالات انتهت بسبع محاكمات عسكرية استثنائية. وقد طالت الاعتقالات ما يزيد على 30 ألف أخ من كل محافظات مصر، وطالت المحاكمات نحو 150 قيادياً من الإخوان، وسُجن حوالى مئة منهم بأحكام نصت على السجن من 3 إلى 7 سنوات مع الأشغال الشاقة. فهل تستهدف الحملة الأخيرة محاكمة عسكرية جديدة، لا يصرف النظام عنها إلا أحداث هامة وخطيرة كما حدث من قبل في القضية التي اعتُقل فيها 58 من الإخوان وكانت كل الظروف والملابسات حينها تدل على نية النظام في محاكمتهم عسكرياً عام 2004.
وجاءت وفاة المهندس أكرم الزهيري ضحية الإهمال والمعاملة القاسية والتشديد الأمني الكبير الذي صاحب تلك القضية، وكان مريضاً بالسكر وأصيب بكسور أثناء ترحيله ولم يقبل ضابط أمن الدولة صرخات الاستغاثة المتوالية طيلة عشرة أيام نُقل بعدها إلى مستشفى المنيل الجامعي (القصر العيني)، ليرحل إلى الله خلال 48 ساعة شاهداً على قسوة النظام ضد الإخوان. نظام مارس فى هذه القضية بالذات، تعذيباً قاسياً ضد معظم المتهمين في استدعاءات متتالية إلى مقر أمن الدولة الرئيسي في مدينة نصر، وأن سياسة النظام منذ عام 1954 لم تتغير إلا أثناء حكم الرئيس السادات والسنوات العشر الأولى من حكم مبارك.
ولم تثنِ المحاكمات العسكرية، الإخوان، عن الاستمرار في نشاطهم وتمددهم في المجتمع المصري ولا إصرارهم على المشاركة السياسية التي بدأت بقوة منذ عام 1984 مع حزب «الوفد» ثم ازدادت بالتحالف الإسلامي مع حزبي العمل والأحرار عام 1987. وكانت مقاطعة شبه تامة عام 1990، وحدثت مساومات عبر بعض المقربين من النظام بعد إحالتنا فى أول قضية عسكرية عام 1995، لتحجيم مشاركة الإخوان إلى أقل حد ممكن مقابل إلغاء المحاكمات وتجاوب الإخوان حرصاً على المصلحة الوطنية. وكان لهم حينها 150 مرشحاً إلا أن الوسطاء ذهبوا ولم يعودوا بأي ردّ، وهذه سياسة عنادية متصلبة معروفة عن النظام وقيادته، ولم أكن شاهداً على تلك المحاولات، إلا أنني سمعت عنها من أطرافها.
وكانت نتائج الانتخابات تحمل دلالة واضحة على نية النظام، إذ لم ينجح إلا مرشح واحد ترشّح باسم حزب العمل آنذاك، النائب الحالي علي فتح الباب الذي احتفظ بمقعده حتى يومنا هذا في حالة فريدة من نوعها.
وكان رد النظام على محاولة الحوار والاتفاق هو الأحكام القاسية قبيل الانتخابات بأيام في 23/11/1995 نالني منها 5 سنوات كاملة قضيتها تامة ونصف يوم زيادة.
ثمّ خرجت في 22 كانون الثاني / يناير 2000 ليستقبلني مباشرة المرشد العام ويسألني بعد أيام النقاهة، «هل نشارك في الانتخابات المقبلة»؟ فأجبت بنعم وسقت مبرراتي وأخفقت خطة النظام، فقد شارك الإخوان في انتخابات عام 2000 ليحققوا مفاجأة مدوية. فقد حاوزا 19 مقعداً وخُصم 3 فأصبحوا 17 ثم أُسقطت عضوية 2 فأصبحوا 15، ومع ذلك كان عددهم أكثر بمقعدين من كل مقاعد الأحزاب الرسمية مجتمعة. ثم كانت المفاجأة المذهلة في انتخابات 2005 التي فاز فيها الإخوان بـ20% من المقاعد وهو أكبر عدد من المقاعد المعارضة في تاريخ الانتخابات المصرية ووضعتهم في ذهن النظام والنخبة والشعب بديلاً محتملاً لأول مرة في حالة حدوث تغيير للنظام أو انتخابات حرة ونزيهة مؤهلين للفوز بأغلبية ضخمة أو الحصول على ما يقرب من30 إلى 40% من المقاعد. حقّق الإخوان تلك النتائج الشعبية والانتخابية في ظل مناخ عالمي وإقليمي يموج بتيارات «الحرب على الإرهاب»، فقدموا بديلاً إسلامياً سلمياً يؤمن بالديموقراطية المستدامة والعمل السلمي السياسي والإصلاح التدريجي وتقديم الخدمات للمجتمع والقدرة على إقامة تحالفات سياسية فى تاريخ ممتد من 1984 إلى 2005. أصاب الفزع النظام الذي حدد سياسته في محاور عدة ضد الإخوان:
ــــ استمرار سياسية التضييق والمطاردة والاعتقالات والمحاكمات.
ــــ التصعيد في اتجاه مصاردة الأموال بالملايين ومحاصرة رجال الأعمال المتعاطفين مع الإخوان وإعلاق منشآتهم.
ــــ التعتيم التام على نشاط الإخوان البرلماني ومنع نقل جلسات مجلس الشعب التي كانت تُبث مباشرة على قناة «النيل» للأخبار.
ــــ محاصرة الإخوان إعلامياً بإغلاق الجريدة الأسبوعية الناطقة باسمهم (آفاق عربية) ومنع حصولهم على أي رخصة لإصدار جريدة أو مجلة حتى في مجال اجتماعي أو أسري (سحب رخصة مجلة الزهور بعد إقرارهم من المجلس الأعلى للصحافة التي حصل عليها وكيل نقابة الصحافيين وهي متخصصة في شؤون المرأة والطفل والأسرة).
ــــ تجميد الانتخابات في النقابات المهنية ومحاصرة النقابات التي للإخوان فيها أغلبية في مجلس الإدارة وزرع الفتن داخل النقابات الهامة مثل المحامين.
ــــ تأميم النقابات العمالية ومنع الإخوان من خوض الانتخابات النقابية فيها.
ــــ تعديلات دستورية خطيرة هدفها الأساسي هو محاصرة الحريات العامة وسد الطريق أمام الإخوان للفوز أو الترشيح في انتخابات رئاسية أو برلمانية أو محلية مقبلة.
ــــ منع الإخوان بقوة الشرطة من الترشح أو الدعاية أو المشاركة في انتخابات مجلس الشورى عام 2006 ثم الانتخابات المحلية عام 2007.
ــــ محاصرة قيادات الإخوان ومنعهم من السفر والتواصل مع قواعد الإخوان في مصر أو الالتقاء بالإخوان فى الخارج.
ــــ إنهاك الصف الأول والصفوف الثاني والثالث من القيادات الإخوانية بالاعتقالات المتكررة التي وصلت إلى استضافة سنوية لشهور لهؤلاء القيادات (قضيت حوالى 15 شهراً بالسجون خلال أعوام 2005، 2006، 2007).
هذه السياسة الخاطئة المدمرة لنسيج المجتمع المصري لم تثمر خلال أكثر من ستين عاماً بتشجيع من المجتمع الأوروبي والأميركي إلا مزيداً من القوة للإخوان وتماسكاً أكثر للتنظيم ومزيداً من الشعبية في ظل تراجع كل التيارات السياسية الأخرى. وتأتي هذه السياسة في ظل تخوف غربي وأوروبي من تنامي ظاهرة الحركات الإسلامية.
واليوم، بعد انتهاء حقبة «الحرب على الإرهاب» التى دشنتها إدارة بوش الأولى ثم استمرت في حماقة تامة في تنفيذها خلال الإدارة الثانية وأثمرت المزيد من حركات العنف العشوائي والعمليات الإرهابية في كل أنحاء العالم وقاراته من بالي في إندونيسيا إلى كازبلانكا على المحيط الأطلسي في المغرب، وانتقلت إلى مدريد ولندن بعدما كانت حوادث متفرقة في نيويورك ثم نيروبي وضد الأميركيين فقط، فقد تحول تنظيم «القاعدة» إلى مدرسة فكرية يتمرن فيها ويتخرج منها كل المحبطين والمهمشين من الشباب في العالم أو القليل من الشباب المسلم المخلص الذي لا يجد منفذاً للعمل من أجل الإصلاح والتغيير بوسائل سلمية.
اليوم إذا كان وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليبند يقول إن العالم لا بد أن يتحدث إلى «حماس»، وإن العالم كلف مصر الرسمية بإدارة الحوار معها، يأتي السؤال الخطير:
ــــ كيف تجري مصر بقيادة مبارك حواراً مع «حماس» وهي لا تحاور ولا تستمع إلى الإخوان المسلمين أو حتى أحزاب المعارضة أو القوى السياسية أو حتى قادة الاحتجاجات الشعبية ولا حتى نواب البرلمان المنتخبين؟
ــــ هل يتولى ملف الحوار الوزير عمر سليمان مدير الاستخبارات العامة المصرية أم غيره؟ وهل هو الأجدر بذلك؟ وهل المطلوب حوار أمني أم المطلوب حوار آخر يحقق الأهداف السياسية؟
لقد حدثت تحولات هامة بدأتها أميركا فى ظل إدارتها الجديدة برئاسة أوباما وشملت استراتيجية جديدة اتضحت معالمها عبر:
ــــ إغلاق معتقل غوانتانامو. ــــ دعوة إيران إلى مؤتمر دولي فى شهر نيسان / أبريل بخصوص أفغانستان. ــــ ذوبان الجيد بين أميركا وسوريا وزيارات الوفود من إلى دمشق. ــــ اتخاذ بريطانيا قراراً بالحوار مع قيادة حزب الله السياسية. ــــ الوفود التي زارت قطاع غزة واكتفت باللقاء مع مقربين من «حماس». ــــ الدعوات المتكررة من بلير ومليبند وغيرهم بضرورة الحوار مع «حماس» التي واكبتها ضغوط أميركية بفرض الشروط القديمة نفسها، وخاصة الاعتراف بالكيان الصهيوني قبل أي نتازلات صهيونية فى تكرار عجيب للمأزق نفسه الذي وصلت إليه حركة «فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وفي هذا السياقات الدولية والإقليمية والمحلية التي تموج بتطورات خطيرة (إضرابات متكررة للصيادلة والأطباء وسائقي المقطورات وسائقي القطارات والميكروباصات واعتصامات للموظفين الحكوميين في الضرائب العقارية وشركة الأدوية الرئيسية)، تأتي الحملة الأمنية الجديدة ضد الإخوان المسلمين غريبة ومستهجنة، حاملة رسالة واضحة. إن التحولات الدولية والإقليمية لا تعني تغيراً في سياسة النظام المصري تجاه الإخوان كما حدث مثلاً في الأردن، فمصر ليست الأردن، ومبارك ليس الملك عبد الله الثاني ولها هدف محدد.
يبقى الهدف الدائم: تحجيم مشاركة الإخوان في الانتخابات البرلمانية المقبلة، بحيث لا يتعدى نصيب الإخوان من المقاعد 40 مقعداً، وهو القدر الذي حدده النظام لانتخابات 2005 وقطعه الإخوان الذين لم يتوقع معظمهم أكثر من 60 إلى 70 مقعداً، فكانت المفاجأة المذهلة وهي إمكان الحصول على 130 مقعداً اختُزلت إلى 88 مقعداً، مما أزعج الجميع. فهل تظل سياسة النظام مصدراً لمزيد من الإزعاج في ظل إصرار الإخوان على التمتع بحقوقهم الدستورية والقانونية؟
* قيادي في الإخوان المسلمين في مصر